قراءاتمقالات الرأي

مجتبى عرمان يكتب: في اقتفاء أثر خراب المدن: الخرطوم نموذجا

سودان ستار

في اقتفاء أثر خراب المدن: الخرطوم نموذجا


د. مجتبي سعيد عرمان


لم أجد مقولة سارت بها الركبان مثل مقولة تنسب إلي الشيخ فرح ود تكتوك التي يقول فيها: (الخرطوم تعمر عمار تصل سوبا وتتفرتق طوبة طوبة)! وحديثا جدا قال أحد عتاة دعاة العلمانية – قدس الله سره ونفعنا بعلمه – 🙁 يا دولة علمانية أو تتفرتق هذه البلد طوبة طوبة)! يا النبي نوح! قديما، أشعل الإمبراطور الروماني نيرون النار – آخر امبراطور للامبراطورية – في روما، وجلس في شرفة برجه العالي مستمتعا بألسنة اللهب وهي تلتهم المدينة التي يقال إنها لم تحترق بالكامل. بل يقول المؤرخون بأن نيرون قام بإعادة تأهيلها من حجارة القرميد. من المدهش حقا، يقال أن نيرون قام بايواء الناجين من حريق روما في قصور الطبقة الاستقراطية!

معلوم للكافة أن مدينة الخرطوم بشكلها “الحديث” تأسست علي يد الحكومة التركية بعدما تم نقل العاصمة من سنار إلي ود مدني ومن ثم إلى الخرطوم في العام 1825. يقال أيضا أن الطوب الأحمر الذي بني به مبني الحكمدراية قد تم نقله من بقايا خرائب مملكة سوبا. شهدت مدينة الخرطوم تحولات هائلة علي كافة الصعد سياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا خصوصا بعد خروج المستعمر البغيض الذي جعل منها العاصمة الإدارية والسياسية. كتب فيها الشعراء اشعارهم وتغني لها الفنانون :

” الخرطوم، يا العندي جمالك

يا الخرطوم، يا العندي جمالك

جنة رضوآن

طول عمري، ما شفت مثالك

طول عمري، ما شفت مثالك

في اي مكان.”

قديما عُرفت الخرطوم بشوارعها النظيفة، وعرٍفت الحياة الليلة في النوادي والبضائع التي تأتيتها من ما وراء البحار نسبة لوجود التجار من مختلف الأجناس والبلدان مما شكل لوحة من التعايش السلمي، (رحِم الله رَجُلا سَمْحَا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى). قبل أن يحل علي البلاد سوق المواسير وسماسرة الدولار، والعقار، والعربات ويصبح الصدق من جنس الزنا كما قال شاعرنا الفحل عمر الطيب الدوش لله دره.

كان الشاعر الفذ محمد المكي إبراهيم مسحورا بالخرطوم حينما جاءها قادما من مدينة الأبيض وهو صبيا في بداية الستينيات قبل أن تتضخم وتصبح ” كرش الفيل” ووقتها كانت المدينة خارجة من نير الاستعمار البريطاني وتشرئب إلي غدٍ أفضل عنوانه الرخاء والنماء. وقتها كان اليسار – بقادته الكبار الذين أقول لاصدقائي عنهم بأنهم السلف الصالح من الشيوعيين – في أوج توهجهم كما لمبات النيون يعطرون ليالي الخرطوم بالندوات السياسية ويبنون النقابات بين العمال، والزراع، والطلاب، والمحيط الإقليمي من حولنا يعج بالتطلعات الكبيرة للانعتاق من الاستعمار وجوره. كتب محمد المكي إبراهيم (قطار الغرب) مسحورا بجمال المدينة قائلا: ( هذي ليست إحدى مدن السودان… من أين لها هذه الألوان؟ إلي ان يقول فيها: ( وحياة الناس سباق تحت السوط.. هذا يبدو كحياة الناس… خير من نوم في الأرياف يحاكي الموت).)

جاء في خراب المدن أن كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب مدينته، ويسأله مالا لكي يعيد ترميمها من جديد. لم تفت علي حكمة وفطنة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الطريقة المستقيمة والعادلة في تأسيس المدن، فكتب إليه قائلا: ( قد فهمت كتابتك، فإذا قرأت كتابي هذا فحصن مدينتك بالعدل ونق طرقها من الظلم ، والسلام). لم تحسن الطبقة الحاكمة- التي ورثت الحكم من المحتل البغيض – إدارة شؤون البلاد والعباد وانشغلت بقضية السلطة وما توفره من مزايا وامتيازات اقتصادية، وسلطوية، ووجاهة إجتماعية وانغمست- الطبقة الحاكمة – في صراع مميت حول السلطة. ظلت قضية الحرب صفة ملازمة لما يُعرف بالحكم ‘الوطني’ وكانت الشرارة الأولي للحرب فيما عُرف في الأدبيات السياسية بتمرد توريت في العام 1955. كانت قضية الجنوب تتمحور حول المساواة في الحقوق والواجبات مع منح الجنوب حكما فيدراليا نتيجة للتباينات ما بين الشمال والجنوب ولم يتم الاستجابة لتلك المطالب التي كانت في غاية الوجاهة والعدل في ذاك الزمان. دخلت البلاد في دوامة الصراع حول كرسي السلطة أو ما يعرف بالدائرة الشريرة أو الجهنمية، ديمقراطية /حكم ديكتاتوري. غابت امهات القضايا عن رادار الطبقة الحاكمة التي تتمثل في قضية العادلة الاجتماعية- والتي هي أم المعارك- وتحسين المستوي المعيشي، وبناء المشافي والمدارس والحفاظ على كرامة الإنسان واتاحت الفرصة له للمشاركة في الشأن العام بعيدا عن الوصاية سواء سلطوية، أو دينية، أو طائفية، أو حزبية!

استولت الجبهة الاسلاموية علي الحكم بليل بهيم بانقلاب الثلاثين من يونيو علي الرغم من إنها تمثل الكتلة الثالثة في البرلمان لتحيل ليل السودان الحالك إلي جحيم، حيث سيطرت علي قمم الاقتصاد كما هو مخطط له واغلقت دور الأحزاب السياسية والصحف- الحزبي منها والمستقل. وامتلأت السجون بالمعارضين السياسيين من كل شاكلة ولون، ونشرت الفاشية الاسلاموية سحابتها “السوداء” في سماوات البلاد وفُتحت بيوت الأشباح سيئة السمعة لمن لا يرعوي! سُميت الحرب الأهلية التي يدور رحاها في جنوب السودان بالجهاد مما زاد من حدة الصراع والانقسام المجتمعي. شهدت البلاد حكما بالحديد والنار شبيها بالقبضة النازية متسربا بالدين للاحتفاظ بالامتيازات السلطوية والاقتصادية وتلك الحالة عبر عنها الشاعر والمدرس و الناقد اليمني عبد الله البردوني في وصف حال بلاده قائلا:

بلادي من يَدَي طاغٍ

إلى أطغى إلى أجفى

ومن سجن إلى سجن

ومن منفى إلى منفى

ومن مستعمر بادٍ

إلى مستعمر أخفى

ومن وحش إلى وحشيـن

وهي الناقة العجفا

زادت حدة الانقسام الطبقي وغابت العدالة الاجتماعية وذلك بفعل طغيان رأس المال الطفيلي وسياسات الخصصة والغلظة في جمع الضرائب ولم يبقي لهم سوي وضع القط علي “سروال” المواطن البسيط كما كانت تفعل التركية السابقة! ظهرت الطبقة الشبعانة حد البطر التي لها مولاتها الخاصة، ومدارسها الخاصة بعد أن تم تسليع التعليم والعلاج بينما الاكثرية تشتري الطماطم المفروشة علي الأرض، تلك الأكثرية التي تم تجويعها حتي يسهل السيطرة عليها قال عنها الدوش: جاع وخير مردوم ردوم يا سعاد. ليت الأمر توقف هنا ولكن “أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها” في شكل البنيات التي تلامس السحاب ومثني وثلاث ورباع من زرق العيون. عجبي!! أمين حسن ورهطه من الإسلاموين لم يُعرف عنهم الثراء قبل الثلاثين من يونيو، فقد جاءوا إلي الخرطوم لينهلوا من العلم بشنطة حديد، وليس هناك ما يعيب المرء في الفقر ولكن العيب هو ان يسرق المرء اللقمة من فم الجائع! تذكرت حديث قاله الزبير محمد صالح أمام حشد من الناس بأنهم جاءوا من أم ضريوة والدورشاب يأكلون ما خشن من الطعام والعدس والفول ولو شاهدتمونا نسكن في البنايات ذات الطوابق المتعددة حينها ادركوا بأننا قد افسدنا!! غريب امر النخبة الاسلاموية ذات الادعاءات العريضة والسرديات الكبري التي حاولت ربط قيم السماء بالأرض وانتهت بطردها من الحكم بسبب فسادها بأن اذهبوا الي الجحيم: ” كيزان حرامية”

ولك ان تقارن بينها وبين ما قاله رئيس وزراء سنغافورة، لي كوان يو: ” إن هناك خيارين بالنسبة لي إما أفسد وأضع عائلتي في قائمة فوربس لأغنى الناس في العالم وأترك شعبي بلا شيء أو أضع بلادي في المرتبة العاشرة من اقوي الاقتصاديات، اخترت الخيار الثاني.” سُئل أبو الجاز وزمرته من الإسلاموين فقالوا بان الخيار الثاني قد تم أخذه ولم يتبقي لنا سوي الخيار الأول !

خلاصة القول وزبدته أن الطبقة المخملية الاسلاموية بلغت شأوا بعيدا في التلذذ بالعيش مما جعل “أسد أفريقيا” يشتري يختا رئاسيا ( يختي عليكم) بمبلغ أربعة ملايين ونصف مليون دولار ليتزامن وصوله مع مؤتمر القمة الأفريقية بغرض نقل المشاركين في رحلة نيلية للترويح عنهم؟؟ والناس جوعي ويفترشون الأرض علي بعد مترات من القصر الجمهوري في مستشفي الخرطوم وكأنهم لم يقرأوا – اي الطبقة الإسلاموية- قصة الخليفة العادل عمر بن الخطاب مع ابنه في عام الرمادة حينما شاهده يحمل فاكهة البطيخ فغضب وقال له: ” بخ بخ يا أبن أمير المؤمنين، أتاكل الفاكهة وأمة محمد هزلي”. ليتك كنت حاضرا بيننا أيها الخليفة العادل لتري دعاة ربط قيم السماء بالأرض يركبون الفارهات ويبنون المباني التي تناطح السماء والناس جوعي ومرضي! يا سادتي تلك المدينة خُربت بسبب ظلم الإنسان لأخيه وعلي طريقة عمرو بن كلثوم :” ونشرب إن وردنا الماء صفوا…. ويشرب غيرنا كدرا وطينا”. وهنا تحضرني قصة المظاهرات التي قامت ضد إنقاع الماء في حي بري العريق في سنوات خلت ووزير خارجية السيخ والأسمنت – علي كرتي – كان يستمتع بالماء المنعش في حوض السباحة في الطابق الرابع في قصره المنيف في نفس الحي. وصدق من قال بأن…. والليالي من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيب. عوضا عن تحصين حكمهم بالعدل بين الناس الذي هو أساس الحكم قاموا بالصرف علي الأجهزة الأمنية لكتم أنفاس الشعب حتي وصلت مرحلة صناعة المليشيات التي لا تجيد سوي صناعة الشر وتجلب الخراب والدمار.

ختاما،لا اتفق مع من يقول بأن الشيخ الورع فرح ود تكتوك هو من قال بان الخرطوم تعمر عمار تصل سوبا وتتفرتق طوبة طوبة وذلك لسببين رئيسين، أولا: تاريخ الشيخ فرح ود تكتوك لم يخضع إلي تحقيق مستقل ورصين من قبل الباحثين والدوائر الأكاديمية لتنقيته من الشوائب، وثانيا: الشيخ فرح ود تكتوك ولد عاش في القرن السابع عشر ومدينة الخرطوم تأسست في العام 1825! ولكن هذا لا ينفي عظمة الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك وصلاحه وفلاحه حتي أنه كان ناصحا للفقهاء بالابتعاد عن السلاطين وعدم التزلف لهم قائلا: يا واقفا عند أبواب السلاطين… إرفق بنفسك من هم وتحزين.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى