د. مجتبي سعيد عرمان: في اقتفاء أثر خراب المدن: حرمان الأكثرية وترف الأقلية! 2-2
سودان ستار
(1)
ركزنا في الحلقة الأولى عن خراب المدن وعددنا الأسباب التي بسببها تصبح مبانٍ دون معانٍ، وذلك بسبب ظلم الإنسان لأخيه وغياب العدالة الاجتماعية. ليت هذا الضيم الذي وقع علي الشعب السوداني كان من قبل المستعمر البغيض ولكنه كان علي أيدي النخبة العسكرية والمدنية التي ورثت الحكم من الاستعمار ولم تتفرغ لقضية بناء وطن جديد عنوانه الرخاء والنماء والنمو المطرد ولكنها بدأت بالاعوجاج حينما طرحت شعار ( تحرير لا تعمير) وما فائدة التحرير إن لم يكن مصاحبا للتعميربل يسير معه كتفا بكتف! إنها محن السودان يا سادتي لكم كان الشاعر طرفة بن العبد محقا حينما كتب قائلا:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
(2)
” الظلم مؤذن بخراب العمران” ابن خلدون
الأمر الذي لا تنطح حوله عنزتان هو أن الطبقة الاسلاموية الفاسدة التي جعلت من الفساد ملمحا اجتماعيا وجزءاً لا يتجزأ من بنية سلطة الفساد والاستبداد الذي اوصلنا إلي ما نحن فيه الآن. عاشت تلك الطبقة حياة الترف في قصورها العالية التي تطل علي النيل العظيم – الذي نحن منه وإليه راجعون- بعد أن تضع الحرب اوزارها، ولا تلقي بالا لما يعانيه السواد الأعظم من بني وطني من آلام والشروط الاقتصادية القاسية التي صنعوها من أجل التكويش علي السلطة والثروة التي دخلت جيوب الخاصة. كلنا يذكر قصص الفساد التي تم الاعلان عنها نتيجة للصراع بين أجنحة الفساد داخل السلطة وذلك بعد أن صارت الكيكة لا تكفي الجميع نتيجة لانفصال الجنوب والريع الذي كان يوفره من البترول. من منا لا يذكر قصة فساد مكتب والي الخرطوم عبد الرحمن الخضر، ومن منا لم يسمع بفساد أحمد محمد الشهير ( بالفشاشوية) مسؤول الإيرادات بالقصر الجمهوري. من منكم لم يسمع بفساد أبن نائب المخلوع حسبو عبد الرحمن الذي تم القبض عليه بتهمة غسيل الأموال واستغلال منصب أبيه حتي بلغت حركة حسابه البنكي 356 مليار – المليار ينطح مليار – ولا ننسي فساد المتعافي وقضية مصنع السكر، وهذا غيض من فيض أو ما ظهر من قمة جبل الجليد. هؤلاء القوم يا سادتي انطبق عليهم قول أبي العلاء المعري :
يسوسون الأمور بغير عقلٍ
فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأف من الحياة وأف مني
ومن زمن رئاسته خساسة!
(3)
تفتقت قريحة السادة القياصرة الجدد واتت باسأليب جديدة لم يسبقهم عليها أحد من أجل التحكم في الشعب، منها ما هو خشن ومعلن ومنها ما هو ناعم كجلد الثعبان! فُتحت بيوت الأشباح سيئة السمعة لقادة الأحزاب السياسية ولكل من قال لا في وجه من قال نعم. من ناحية أخري كانت هناك الأساليب الناعمة للذين خفت موازينهم الوطنية فكان نصيبهم الاستوزار علي شكل وزارات عديمة القيمة سوي من العربة التي تجلب متطلبات الأسرة من مأكل وملبس واخري للمدام للذهاب للكوافير، وثالثة للرجل الذي باع نفسه للشيطان. سيطرت الأوليغارشية الإسلاموية علي قمم الاقتصاد والسوق الذي تم تجييره بالكامل لصالح التنظيم الأخطبوطي وقامت بتأسيس اقتصاد ريعي قائم على بيع الأراضي الزراعية وتأجيرها للشركات والمؤسسات العابرة للجنسيات مما خلق طبقة جديدة من الأثرياء الجدد مستجدو النعمة الذين ضربوا بأساليبهم الفاسدة قيم الكد والاجتهاد للحصول علي الثروة بعيدة عن استخدام جهاز الدولة للثراء والمغنم الشخصي علي العكس تماما من الرجال الكبار من أمثال الشيخ مصطفي الأمين وصحبه الميامين رضوان الله عليهم لأنهم لم يغتنوا من حق الضعفاء والمساكين بل كانوا ناصرين للضعيف عبر إنشاء المصانع التي فتحت البيوت ولم ينهبوا الأموال الي ماليزيا وغيرها من المدن المخملية وهذا كله تم بدون الادعاءات العريضة بربط قيم السماء بالأرض ربطا تعسفيا! بل حتي في مفارقة لقيم الهمباتة حينما كانت الهمبتة موقفا اجتماعيا علي أيام الطيب ود ضحوية وطه الضرير …”ما بياكل الضعيف و مابسولب المسكين الا سميتن اسد ابو قبضتن طين.” حرية الفكر مخنوقة، التجمع وإبداء الرأي والاحتجاج ممنوع ما لم يتماشي أو تسمح به سلطة الاستبداد والعسف، وممنوع الاحتجاج أو الثورة علي الأوضاع الرديئة والنص الديني حاضرا لمواجهة من لم يرعوي ويهدد الطمأنينة العامة التي تعني طمأنينة الذي يسكن قصر غردون ومن معه من اللصوص الذين يسرقون الكحل من العين.
(4)
لم أجد وصفا بليغا يصف حال بلادي والناس فيها مثل وصف عبد الوهاب البياتي الذي قال عن عراقه المأزوم:
أرضٌ تدور في الفراغ ودمٌ يُراقْ
الشمولية الدينية في السودان عملت علي سحق كرامة المواطن عوضا عن إكرامه، لا يوجد “مشروع حضاري” بدون الحفاظ علي كرامة المواطن ولا نهضة حضارية بدون صون كرامة الإنسان كما بينت شواهد التجربة الإنسانية والاوربية علي وجه الخصوص بعد الحرب الكونية الثانية. لا استقرار وتعايش مجتمعي سلمي وتساكن في ظل حرمان الأكثرية وترف الأقلية. مما لا جدال فيه أن الفقر يمحي جوهر الإنسان ويحرمه من حقه في الحياة ويجعله ذليلا علي عكس ما أراده الله حينما كرمه في البر والبحر. لن يستقر السودان بدون استئصال شأفة الفقر وإنعتاق الفقراء من براثن الفقر. الم يقل حبيبنا ومولانا علي بن أبي طالب بأن الفقر في الوطن غربة، والغني في الغربة وطن، وهو القائل أيضا : ” ما جاع فقير إلا بتخمة غني. ” يقال أيضا أن الحروب تُخاض من قبل الدول لتغيير الخرائط ولكن حروب الفقر تخاض من أجل وضع خارطة التغيير.
خلاصة القول وزبدته، المؤسسة القديمة وطبقتها الحاكمة افلست ولم تستطع بناء وطن يسع جميع السودانيين غض النظرعن المنبت الإجتماعي، و الانتماء الديني، والجغرافي، العرقي. الآن حانت لحظة الحقيقة الكبري التي يجب مواجتها بكل شجاعة وجراءة من أجل بناء وضع ديمقراطي ليبرالي، لا نقول ان هذا الوضع هو العصا السحرية التي تحل كل مشاكل الدولة البنيوية ذات الجذور التاريخية ولكن الوضع الديمقراطي يتيح لنا مناقشة كل مشاكلنا بحرية وبدون حجر علي الرأي المختلف وعلي قدم المساواة. لابد من بناء اقتصاد غير ريعي، منتج من أجل بناء مجتمع غير استهلاكي. يجب أن لا يستخدم الدين في المعترك السياسي ولشرعنة الحكم والحافظ علي الامتيازات الاقتصادية والسلطوية كما حصل وبشكل قبيح وذميم طيلة سنوات الإنقاذ العجاف وسفينتها التي سارت لا تبالي بصيحات الجوعي والبشر المهانين.
ستظل التوترات والهزات الاجتماعية تحفر عميقا في تربة المجتمع السوداني ما لم يتم مخاطبة قضية العدالة الاجتماعية التي يحب ان نجد لها الدواء الناجع من خلال برامج مكافحة الفقر والتخطيط العلمي في كافة جوانب الدولة وإدارتها بعيدا عن أصحاب المصالح وشبكات الفساد التي تلبس جلباب القبيلة تارة وغطاء الدين تارة أخرى. الدولة التي تجعل من الحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه كما جاءت في مواثيق الأمم المتحدة، وأولها الحق في الحياة الذي يُعلي ولا يعلي عليه. الدولة التي لا يتحكم فيها ذوي القدرات المتواضعة، وحفنة من الانتهازيين و الوصوليين الرثين الذين باعوا أنفسهم بدراهم معدودات. نحتاج إلي تسخير جهاز الدولة لخدمة الشعب لكي نبني المشافي، والمدارس،والطرق، واستخدام التكنولوجيا لإنتاج الطاقة النظيفة. لسنا في حاجة إلى “أسد إفريقيا” من جديد ليحكمنا لأننا لا نعيش في غابة، بل نحتاج إلى حاكم محاسب امام الشعب والله من قبل البرلمان والصحافة الحرة، لا يُدخلنا الجنه وإنما ليبني لنا جنة في الأرض مثلنا ومثل شعوب الدنيا، ونحن نستحق أن نعيش في سلام ووئام ولا ينقصنا سوي الحكام أصحاب الأيادي النظيفة المتعففين الذين لا يأكلون “المال اكلا عجيبا” كما قال الدكتور حسن الترابي عن شبابه الرسالي الذين القوه في السجن بعد أن اوصلهم إلي السلطة بليل بهيم! الوصفة ‘السحرية’ هي تحويل جهاز الدولة من آلة للقتل وسفك دماء الناس إلى جهاز يسهر علي خدمتهم والخروج من حالة التمليش وبناء جيش مهني واحد يعبر عن التنوع السوداني لا علاقة له بالاقتصاد ولا السياسية البتة، هذا أو طوفان لوردات الحرب الذي يلوح في الأفق. ألا هل بلغت اللهم اشهد!