منوعات

المعز عبدالمتعال يكتب: سطوة الشِعر

سودان ستار

 

ظلّ شغفي بالشِعر مُتعتي منذ الصغر، متعة ليس لها حدود، كنت ارى هذا العالم من نافذة تُطل على بحر الشِعر العميق، تأثّرت كثيرًا بالشِعر، قرأته كأنّني اتنفسه، اترّنم به كما الغناء، ما القصيدة سوى بوح صار كتمانه عصيًّا فانفجر.

تذكّرت الشاعر الجميل عبد القادر الكتيابي حين قال:

“يختبئ الشِعر فيّ كما تختبئ خاصية المغنطة في جلد المغنطيس”، ياله من شاعر، نزع المغنطة من جلد المغنطيس وارتداها عمامة يوم عرس الوطن قائلًا:

“إنّما هذا الزفاف اليومَ أعراس كثيرة

فاضربي دلّوكة الذكرى على يافوخها

كي تخرج العين العنّية

والمرارات المريرة.”

كيف تألّمت دلّوكة الذكرى بالضرب على يافوخها؟ كيف اخرجت لنا مراراتها؟ وكيف تأوّهت دلّوكة الأحزان؟.

انكفيت قليلًا، وتذكّرت خليل فرح، تفتّق صباح الكون، حين صدح الخليل:

“ياخفيف الروح، هو هذا نداك ام ندى الأزهار.”

اكاد اجزم أنّني شاهدته جالسًا مع الأحباب، يخلع طربوشه مُبتسمًا، مُتّكئًا على نسمات الصباح.

تُرى كم مرّة ابكاني هذا البيت:

“في سموم الصيف لاح له بارق

لم يزل يرتاد المشارق

كان مع الأحباب نجمه شارق

مالو والأفلاك في الظلام.”

كيف ينعي خليل نفسه بهذا الفقد والألم؟ كيف يستنطق الحرف دموعًا؟ كيف صدح:

“عيني مابتشوف إلا شاهق، أين وجه البدر التمام؟.”

هو مكانك يا خليل، من شاهق إلى شاهق، سدرة مُنتهى الروعة، رأيناك ياخليل، لاتزال قمرًا في بدر تمامه، قمرًا ساحر الدجى، قمرًا سرمديّ الضياء.

تعجبّت من هذا الرثاء، كيف يختم المبدع حياته ويضع نهايتها ويجعلنا نتحرّق لفراقه بهذه اللوعة؟ وجدت الجواب حين داهمتني ذكرى رحيل الأحباب، وذاك الصبور، صلاح أحمد إبراهيم؛ ينعي نفسه عبر ملحمته الفريدة، نحن والردى، قائلًا:

“ما الذي أقسى من الموتِ؟

فهذا قد كَشفْنا سرّه

وخَبَرنا أمرَه

واستسغْنا مُرّه

صدئت آلاتُه فينا ولا زلنا نُعافرْ

ما جَزِعْنا إن تشهَّانا ولم يرضَ الرحيلْ

فله فينا اغتباقٌ واصطباحٌ ومَقِيل.”

ياللأسى ياصلاح، يالصفاء روحك، حين يجادلها اليقين فتنتصر، واجهت مصيرك بجدارة، ثُمّ ابحرت في بحر الغياب.

اذكر جيّدًا حين غاب مصطفى سيد أحمد، سألني بعض الأصدقاء، كيف ستقاوم هذا الفقد؟ قلت لهم، كأنّني انتظر حُميّد يكتب عنّي فيرثيه، لعلّه يُخفّف حُمى الألم، شهقت دموع حُميّد وهو يرثي مصطفى سيد أحمد باكيًا، يستحلفه البقاء:

“بالشمشِ ماروق الرجال

وجّت جنائن غنيتك

ماكان رحيلك غير دليل

للجايي ماسك سكّتك

ياشدو عصفورنا البسيط

كل الحلوق إتوكّتك

إن مابتبيت فوق السبيط

طوّل مسافة ركّتْك

ماصمّتك مطرًا غتيت

لا ريح لديح يوم سكّتك

عُذرًا إذا حال الوطن

بالجاتو ذات ليل بكّتك.”

ثُمّ انفجرت شلّالات دموعه:

“ﺍﻟﺠﺮَّﺏ ﻳﻄﻴﺮ ﻣﺎب ﻳﻤﺸﻲ

ﻟﻮ ﺣﺮّﺕ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻷ‌ﺷﻮﺍﻕ

ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﺐ ﻟﻬﻴﺐ ﺍﻟﺸﻤﺶِ

ﻣﺎ ﻛﻮَّﺵ ﻣﻦ ﺍﻟﺮقراق.”

أين وجدت هذه الحروف ياحُميّد؟ كيف نسجتها سجادة من الألم؟، ذرفت كثيرًا حين قرأت هتافه:

“قلنا الله بيخون الخائن

لمّلمّناك والعين بتعاين

مدّ النيل الوافي ضراعو

سوّيناك باجور وجنائن

شيّدنابك دور ومدائن

حنّدكنابك حز الريح

حرّكنابك شوقنا الكامن

أو قلّنابك ظل مطامن

إنو حيشرق فجر العالم

بي بني آدم طيّب وآمن

ونفضل نطلق نار الغنية

تالا الذمم الخاتي نظامن

تنسف ونجرف دبش الدنيا

وغِشْ الفجر الكاذب لامن

تبرق ويمرق شخب الباكر

وتضوي سماك يايومها التامن.”

لم تتوقّف دموعي، تأوّه حُميّد باكيًا مصطفى مُجدّدًا:

“وين داجي ياقمر الهنا

الكرّمنا عند مغرب مرق

سايب لياليك لي نجوم

واقفات وجوم على فد رجل

فرع الغنا الميّل هنا

على مين وراكّ حيتّكل.”

تتعبني ذكرى مصطفى وحُميّد حد الاعياء، رحل حُميّد، بعد رحيل مصطفى، برحيلهما مالت فروع الغناء، وتساقطت أوراق الشِعر، ولم تسقط الأشجار.

بدأت عواصف الذكرى تُلوّح، هاهي شجرة محجوب شريف الظليلة، تقف في وجه الرياح، يرثي تحت فروعها عبد الكريم ميرغني، قائلًا:

“ياتلك الترامس

وينو الصوتو هامس

كالمترار يساسق

ويمشي كما الحفيف

كم في الذهن عالق

ثرثرة المعالق

والشاي اللطيف

أحمر زاهي باهي

يلفت انتباهي

هل سُكّر زيادة

ام سُكّر خفيف.”

صدقت يامحجوب، أجمل اللحظات نقضيها حين نستطعم ارتتشاف الشاي مع الأصدقاء، حينها ترتعش المعالق، وتخفق الترامس، ويعلو الهمس تحت اغواء كوب شاي وطقس ارتشاف.

قرأت كثيرًا من الشِعر السوداني، اصطفيت منه ما اصطفى الشاعر د. طلال دفع الله جراحه هامسًا:

“تحتك نسيج الليل طويل

الأناشيد الماخدة من حِزم الشعاع

نار البدايات البتول

للسحابات التلوِّح قوس قزح

بُشْرَة هطول

ولي ضِيا القمر المقرّح

ضد قوانين الأفول.”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى