إقتصادمال و أعمال

محمد عادل زكي: الإعدام اليومي للطلبة

سودان ستار

 

 

على صعيد الفكر الاقتصادي، لدينا الآن، وبعد هجر النظريَّة الموضوعيَّة في القيمة، ثلاثة تيارات فكريَّة كبرى: النيوكلاسيك، وكينز، والنقديين، وذلك في الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى أيامنا تلك. وما يجمع التيارات الثلاثة هو الانشغال بحقل التداول، لا الإنتاج. وفي التداول يظهر ذلك الرجل الاقتصاديّ الَّذي يتصرف بمنتهى الرشادة! محاولًا حل أزمته الاقتصَاديَّة الَّتي تتركز في حاجاته غير المحدودة وعليه أن يشبعها بموارد محدودة! وبالتالي يتم اختزال المجتمع بأكمله في هذا الرجل الرشيد، كما يتم اختزال الأزمة الاقتصَاديَّة بأَسْرها في حاجاتٍ غير محدودة وموارد محدودة. وفي التداول أيضًا تكون الأولوية لظاهرة الأثمان الَّتي تتحكم فيها اعتبارات الطلب والعرض! هذا الطرح برمته والَّذي تشكل في معامل الغرب الرأسماليّ يستند إلى واقع تَحدَّد ببلوغ الأجزاء المتقدمة مرحلة من التطور أدَّت إلى أزْمة، لا في حقل الإنتاج الَّذي حقَّق مستويات مرتفعة وربما غير مسبوقة، إنما في حقل التداول حيث فَرْط الإنتاج والهدر الاجتماعيّ، وهو ما أنشأ ضرورة البحث عن أسواق جديدة لتصريف هذا الإنتاج الضخم الَّذي يُفضي تكدُّسه إلى أزماتٍ هيكليَّة في تلك الاقتصادات المتقدمة. ومن هنا تبلورت أزمتان أصابتا الأجزاء المتخلّفة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، أحدهما على صعيد الواقع، والأخرى على صعيد الفكر:

 

تبدَّت الأزمة الأولى في أنْ وقع اختيار الأجزاء المتقدمة على أسواق الأجزاء المتخلّفة كي تكون الأسواق الجديدة الَّتي تمتص الفائض. ولكن، امتصاص فائض الأجزاء المتقدمة من قبل الأجزاء المتخلّفة يستلزم التمويل الممكّن من شراء هذا الفائض. حينئذ قامت الأجزاء المتقدمة، من خلال وكلائها: البنك والصندوق الدوليَّين، ووفقًا لتعاليم النقديين، بتقديم القروض، المشروطة، للأجزاء المتخلّفة؛ مما أدَّى إلى غرَق الأجزاء المتخلّفة في المديونية، وحينما همَّت بالخروج منها وجدت نفسها متورطة أكثر وأكثر في قروضٍ جديدة لتسديد القروض القديمة الَّتي استُخدمت في شراء السلع والخدمات المنتَجة في الأجزاء المتقدمة؛ وبالتالي ساهمت في تشغيل مصانع تلك الأجزاء المتقدمة؛ ومن ثم تخفيض معدَّلات البطالة والتضخُّم والركود… إلخ، في تلك الأجزاء المتقدمة.

 

أما الأزمة الثانية فقد ظهرت على مستوى الفِكر المهيمن على المؤسَّسة التعليميَّة في الأجزاء المتخلّفة، وبصفةٍ خاصّة في مصر وعالمنا العربيّ. فعلى الرغم من أن نظريات النيوكلاسيك والنقديين على الأقل، قد أُنتجت في معامل الغرب الرأسماليّ من أجل الغرب الرأسماليّ، وعلى الرغم أيضًا من عجزها التَّاريخي عن تفسير أزمات الرأسماليَّة؛ إلا أنها تهيمن على المناهج التعليميَّة في الأجزاء المتخلّفة، ويتم تقديمها عادةً وكأنها النظريات الصحيحة، بل والوحيدة، تاريخيًّا!

 

ولكي نفهم طبيعة ومحتوى (العِلم!) الَّذي يُلقَّن للطلَّاب، ويتم إعدامهم به يوميًا، في المدارس والجامعات في عالمنا العربي بوجهٍ خاص، وفي مصر بالأخص، وكيف تم الانتقال من علم يوضّح ويكشف إلى فنٍّ يخفي ويطمس. من علم اجتماعي إلى فنٍّ معملي. وكيف تم تسويق هذا الفن، وبصفةٍ خاصة في الأجزاء المتخلّفة من النظام الرأسماليّ المعاصر، وعالمنا العربيّ في مقدمة هذه الأجزاء بتفوق! وسنكتفي فيما يلي بمراجعة، موجزة بطبيعة الحال، لانعكاس هذا الانتقال والتحول من علم الاقتصاد السِّياسي إلى “فن التسيير” على واقع نظرية من أهم النظريات، وهي نظرية التخلّف، بعبارة أدق: تجديد إنتاج التخلُّف.

 

فمن العبارات المألوفة والَّتي غالبا ما يتم تداولها في الندوات والمؤتمرات وعلى المنصات الاحتفاليَّة للمؤسسات المهتمة بمشكلات الوحدة العربية. وللعجب نجد العبارات نفسها يتم تداولها في بعض الندوات، والمؤتمرات، والفعاليات الفكرية والثقافية، الَّتي تنظمها الأنظمة السياسيَّة الحاكمة، والمؤسسات الرسميَّة في الأقطار العربيَّة، تلك العبارات الَّتي تقول: إنه يحق لكل عربي مؤمن، وحتّى غير المؤمن، بالقوميَّة ووحدة المصير والهدف المشترك، أن يندهش، بل ويسخر حزينًا متألمًا، حينما يجول ببصره على خريطة عالمنا المعاصر، ومهما أن كانت الخريطة الَّتي يُنظر إليها، سياسيَّة، جغرافية، طبيعيَّة،… أو حتّى صماء؛ فلسوف يدرك على الفور أن هناك شيئًا مستنكرًا غريبًا يحدث على أرض الواقع؛ إذ أن تلك المساحة الشَّاسعة الهائلة على الخريطة والَّتي تحتل نحو 10% من يابسة الكوكب؛ وتسمى العالم/ الوطن العربيّ، لا ينقصها أي شيء من الموارد البشرية والإمكانات الطبيعيَّة والمادية، حتّى تنطلق نحو التقدُّم… نحو حياة أفضل… نحو خلق حياة كريمة للأجيال القادمة. ومع ذلك لم يزل وطننا العربيّ (مُتخلّفًا) (تابعًا) على الرغم من أن الاستعمار، الَّذي كان حجة المتحججين، قد انقشع منذ عشرات السنين، ولم يزل الوطن العربي مكبلًا بقيود التخلُّف! فلماذا؟ وإلى أي حد؟ وكيف الخروج من هذا الأسْر؟ وهل هذا من الممكن إنجازه؟ أظن أن الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المرتبطة بوجودنا الاجتماعيّ ذاته كعرب، بل كبشر، تتعلَّق بمدى وعينا بالأمور الخمسة الآتية:

 

1- إن غالبية المساهمات النظريَّة، وما يُعرف بـ (التراكم المعرفي) في حقل تحليل ظاهرة التخلُّف الاقتصاديّ العربيّ، بوجهٍ خاص، لم تستطع أن ترى ظاهرة التخلُّف إلا من خلال بيانات المرضى وأرقام الفقر وأحوال الجوعى، وإحصاءات الدَّخل والمنتوج والتضخُّم،… إلخ. ومن ثم يصير الحل لدى هذه المساهمات، وهي المعتمدة رسميًّا، للخروج من الأزمة، أزمة التخلُّف، هو التركيز على النداء، وأحيانًا الصراخ، باتباع السياسات “الرَّأسماليَّة/ الحرة” الَّتي تتبعها الدول الَّتي لا تُعاني من الفقر والجوع والمرض؛ لكي تخرج البلدان المتخلّفة من الفقر والجوع والمرض!

 

2- وهو ما يترتب على الأمر الأول، فغالبية المساهمات إنما تنتهي حيث يجب أن تبدأ، إذ عادةً ما نرى مئات الكتابات في هذا الصدد تقترح للخروج من أزمة التخلُّف سياسات اقتصاديَّة ذات مدخل أدائي/ خطي، دون محاولة إثارة الكيفيَّة، الجدليَّة، الَّتي تكون بها التخلُّف تاريخيًّا على الصعيد الاجْتماعيّ في الأجزاء المتخلّفة من النظام الرأسماليّ العالميّ المعاصر بوجهٍ عام، وعالمنا العربي، الَّذي هو أحد تلك الأجزاء، بوجه خاص. وأفضل ما أمكن تحقيقه هو الإشارة إلى الاستعمار، كتاريخٍ ميت، ثم القفز البهلواني، بعد الجهل بالتَّاريخ أو تجاهُله بجهل، إلى اقتراح سياسات السُّوق الحرة!

 

3- عادةً ما يتم تناول إشكالية التخلُّف الاقتصادي العربي بمعزل عن إشكالية التخلّف على الصعيد العالمي، أي دون رؤية الاقتصاد العربي كأحد الأجزاء المتخلّفة من النظام الرأسماليّ العالمي المعاصر، وربما كان هذا ترتيبًا منطقيًّا لتناول الإشكاليَّة من منظور أحادي يفترض التجانس ولا يرى سوى الطرح “التكاملي” والمنادة “المثاليَّة” بالتكامل الاقْتصَادي العربيّ. وكأن البلدان العربية تعيش خارج الكوكب! على الرغم من ارتباط (إنجاز) مشروع التكامل الاقتصادي العربي بالتعامل مع الرأسماليَّة (الَّتي هي خضوع الإنتاج والتَّوزيع في المجتمع لقوانين حركة الرَّأسمال بغض النظر عن شكل التنظيم الاجتماعيّ، وبغض النظر عن مدى تطوُّر قوى الإنتاج)، ابتداءً من الوَعْي بقوانين حركتها تلك، بقصد فك الروابط مع الإمبرياليَّة العالميَّة من خلال مشروع حضاريّ لمستقبل آمن.

 

4- السُّؤال الأهم، وغالبًا ما لا تتم الإجابة عنه، هو: لماذا، بعد أن خرج الاستعمار الَّذي شوَّه الهيكل الاقتصاديّ وسبَّب التخلّف، لم تزل بلدان العالم العربي متخلّفة؟ هذا السُّؤال من المعتاد تجاهله من قبل النظرية الرسميَّة، والانتقال الكوميدي إلى: كيف نخرج من التخلُّف بالتكامل؟ وحينئذ نرى سيلًا من الآراء والمقترحات (المدرسيَّة/ الرسميَّة) الَّتي لا تعرف ما الَّذي تبحث عنه بالتحديد؛ وذلك أيضًا أمرٌ منطقي؛ حينما لا تعرف هذا المقترحات ماهية التخلُّف ذاته! على الرغم من أن الحديث عن التكامل الاقتصاديّ يكون عديم المعنى والفائدة معًا إذ لم يقترن بالبحث الموازي في ظاهرة التخلُّف الاقتصادي والاجتماعيّ في بلدان العالم العربي، بوصفها أحد الأجزاء المتخلّفة (وغير المتجانسة) من النظام الرأسماليّ العالمي المعاصر، من جهة درس ماهية ظاهرة التخلّف ومحدداتها وكيفية تجاوزها التَّاريخيّ. فلن يمسي مقنعًا الحديث عن تكامل اقتصادي عربي بدون الحديث عن كيفية هيكليَّة لتجاوز التخلُّف نفسه، وإنما ابتداءً من إعادة النظر في التراكم المعرفيّ في حقل نظرية التخلُّف ذاتها.

 

5- ولأن النظرية الرسميَّة (النيوكلاسيكية في مجملها) هي المعتمدة للتلقين في المدارس والمعاهد والجامعات في عالمنا العربى؛ فالنتيجة هي الإعدام اليوميّ لمئات الآلاف من الطلَّاب، الَّذين يتم تلقينهم صباحًا ومساءً بيانات الفقر وعدد المرضى والجوعى، ويُقال لهم إن هذا هو التخلُّف بعينه، وإذ ما أردتم الخروج ببلادكم من هذه الحالة فلتنظروا إلى ما يفعله صنّاع القرار السِّياسي الاقتصاديّ في الغرب الرأسماليّ، بل وأفعلوا ما لا يفعلون! لأنهم حقًّا يستحون! كونوا أكثر طموحًا! افتحوا الأسواق! حرروا التجارة! عَوموا العُملة! لا تدعموا الفلَّاح واتركوه نهبًا للرأسمال المضاربيّ! سرّحوا العمال! قلّصوا النفقات العامة! ارفعوا أيديكم عن الأثمان! ساندوا كبار رجال المال! تخلَّصوا من القطاع العام! رحّبوا بالرأسمال الأجنبيّ، وافعلوا ما يمليه عليكم البنك والصندوق الدوليَّين! قدّسوا نموذج هارود/ دومار! لا تقرأوا إلا للنيوكلاسيك! اتَّبعوا جيفونز، ومنجر، وفالراس، وفيلبس، وصامويلسون، وجوارتيني، وفريدمان، وكروجمان، وصولو، وغيرهم من الحدّيين والكينزيين والنقديين؛ حتمًا بعد أن يُقال لهؤلاء الضحايا الَّذين يتم إعدامهم فِكريًّا يوميًّا في المؤسَّسات التعليميَّة في العالم العربي أن “العِلم الاقتصادي” هو ذلك الكم المكدَّس من الأرقام والمعادلات والرموز في مؤلَّفاتِ هؤلاء فقط، أما غيرهم فهم إمَّا تاريخٌ مقبور، أو كفارٌ ملحدون… ولكي تكون المحصلة النهائية، حينما يكون بأيدي هؤلاء الطلَّاب/ الضحايا صنع القرار السياسي في بلادهم المتخلّفة، هي المساهمة الأكثر فعالية في تعميق التخلُّف، وربما تسريع وتيرة تجديد إنتاجه! إن الَّذي يتم تلقينه للطلَّاب الَّذين يوميًّا يتم إعدامهم فِكريًّا في عالمنا العَربيّ بصفةٍ خاصّة يرتكز على قاعدةٍ أساسية في الاقتصَاد قوامها: أن كل شيء متوقف على كل شيء! الأدْهَى والأمَر، أن الأساتذة. أساتذة الاقْتصاد في الجامعات. الَّذين يتولَّون التلقين لا يجدون أدنى غضاضة في أن يقولوا لهؤلاء الطلاب، الضحايا، إن الاقتصَاد هو الاقتصاد السِّياسي، والاختلاف بينهما هو اختلافٌ، مزاجي، في الاسم، نتجَ عن تطورٍ تاريخيّ! على الرغم من أن الفارق بين الإثنين هو كالفارق بين الوهم والحقيقة، بين التبرير والعِلم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى