إقتصادمال و أعمال

د.سحر حنفي : من هيمنة المستعمِر إلى قهر الدين الدولي

سودان ستار

 

 

ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية؛ إلا وأن صار من المؤكد اتجاه العالم المعاصر نحو التنظيم: القانوني (الأمم المتحدة)، والمالي والنقدي (البنك والصندوق الدوليين)، والتجاري (سابقاً: الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، ومنظمة التجارة العالمية حالياً). وما ننشغل به في سلسلة مقالاتنا الراهنة هو التنظيم المالي والنقدي الذي تولى أمرهما البنك والصندوق الدوليين.

 

(1)

 

فإذ ما بدأنا منهجيا بالبنك الدولي، يمكننا القول بأن نشاط البنك الأساسي يتركز في الإقراض، وتتأتى موارده من اقتراضه من أسواق رأس المال الدولية، أي أن الدول الأعضاء لا تدفع مساهماتها بشكل مباشر، وتتمثل أهداف البنك الدولي كما وردت فى المادة الثانية من الاتفاقية المنشئة له فيما يلي:

 

أولاً: المساعدة فى تعمير وتنمية الدول الأعضاء به وذلك عن طريق تسهيل استثمار رؤرس الأموال فيها. وإعادة بناء اقتصاداتها.

 

ثانياً: المساعدة فى تطوير الموارد والإمكانيات الإنتاجية فى البلاد المتخلفة وتشجيع التنمية فيها.

 

ثالثاً: تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة عن طريق ضمان القروض المقدمة منها أو المساهمة فى تلك القروض والاستثمارات الأجنبية غير الحكومية وتمويل المشروعات الإنتاجية بشروط ملائمة.

 

رابعاً: العمل على تحقيق التوازن لميزان المدفوعات فى الدول الأعضاء بتشجيع تنمية الموارد الإنتاجية لتلك الدول وتحقيق النمو المتوازن للتجارة الدولية.

 

خامساً: التنظيم بين القروض التى يقدمها البنك وبين القروض التى يضمنها والمقدمة من مصادر أخرى لتحديد الأولوية للمشروعات الأكثر نفعا.

 

 

 

 

 

(2)

 

ويمكننا إيجاز مهام البنك الدولي في أمرين: أولهما: تقديم وضمان القروض على الصعيد العالمي. ثانيهما: تقديم المساعدات الفنية للدول المدينة.

 

وبالنسبة للقروض فيشترط الآتي:

 

(1) موافقه الدولة التى اقترض البنك من أسواقها، والدولة التى يقدم القرض بعملتها.

 

(2) يمنح البنك قروضا متوسطة وطويله الأجل تتراوح ما بين سنتين وخمس سنوات من تاريخ عقد القرض وتصل الى 25 سنه بالنسبة للمشروعات المتعلقه باْقامه معدات راْسماليه تستخدم فى الأغراض الإنتاجية.

 

(3) يجب أن لا يتجاوز جملة ما يقدمه البنك من قروض وضمانات نسبه الـ100% من قيمه رأسماله.

 

(4) يحدد البنك معدل فائده على الاقتراض وفقاً للمعدل الذى يدفعه البنك نفسه للاقتراض وقت عرض القرض فضلاً عن1% عمولة سنوية. ويبلغ معدل الفائدة فى الوقت الراهن 7,5% تقريباً من إجمالى المبلغ الذى ينفق فعلاً على المشروع.

 

أما الشروط المتطلبه فى المشروع: فهي:

 

(1) يعتبر البنك الدولى مؤسسة مالية وانمائية على حد سواء وتقضي الاتقافية المنشئة للبنك بان المشروعات التى يقوم بتمويلها يجب أن تكون مشروعات إنتاجية فى نطاق التعمير والتنمية.

 

(2) يجب أن يكون المشروع محدد ومعين بالذات ويقدم القرض وفقا لظروف كل مشروع على حدة.

 

(3) يجب أن يتمتع المشروع بأولويه متقدمه في خطط التنميه للدولة طالبه المساعدة. رابعاً: يهتم البنك بالمشروعات التى تحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية معاً.

 

(3)

 

أما صندوق النقد الدولي، فقد انشئ بموجب ذات الاتفاقية التى أنشيء بها البنك الدولى. وقد ترتب على وجود مقر صندوق النقد الدولى فى واشنطن بجوار مقر البنك الدولى، ارتباط توجههما ارتباطاً منهجياً. واذا كان البنك الدولى يعد أحد أهم مؤسسات النظام الاقتصادى الدولى. فإن دور الصندق لايقل أهمية. خاصة وأنه قد عهد إليه بمهمة استقرار أسعار الصرف وحرية تحويل العملات بين الدول والإسهام فى أقامة نظام نقدى دولى مستقر وقادر على تشجيع التوسع فى التجارة الدولية ومعالجة الخلل المؤقت فى موازين مدفوعات الدول. وأصبح الصندق والبنك الدولى يمثلان ثنائياً مشتركاً لما اصطلح على تسميته”الإصلاح الاقتصادى” منذ بداية الثمانيات خاصة بالنسبة للأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي.

 

ومن الجدير بالذكر أن الموارد المالية للصندوق تقوم على أساس نظام الحصص للدول الأعضاء التى تتحدد وفقا لمعايير مختلفة؛ من بينها وضع الدولة فى الاقتصاد العالمى وحجم التجارة الدولية والناتج القومى لكل دولة. ويعاد تقدير الحصص كل خمس سنوات. ويتوقف مدى قدرتها على الالتجاء الى الصندوق للاقتراض على حجم الحصة التي تقدمها الدولة. كما يتوقف على قدر هذه الحصة القدرة التصوتية فى مجلس أدارة الصندوق؛ حيث تقوم كل دولة عضو بايداع حصتها فى الصندوق بما يعادل 25% منها ذهب أو 10% من أصولها الرسمية وباقى الحصة يتم إيداعها فى شكل عملة محلية. ويمكن لأية دولة عضو أن تشترى من الصندوق عملات أخرى مقابل عملتها المحلية فى حدود 25% من قيمة حصتها السنوية بشرط ألا تتجاوز عملية الشراء 200% من قيمة حصتها من العملة المحلية لدى الصندوق.

 

(3)

 

ويمكننا وفقا لنص المادة الأولى من الاتفاقية المنشئة للصندوق حصر أهداف الصندوق فى النقاط التالية:

 

(1) تشجيع التعاون الدولى بين الدول الأعضاء فى المجال النقدى.

 

(2) تشجيع النمو المتوازن فى مجال التجارة الدولية لرفع مستوى الدخول وتنمية الموارد الإنتاجية للدول الأعضاء.

 

(3) العمل على تحقيق ثبات أسعار الصرف.

 

(4) إلغاء القيود الجمركية والتنظمية التى تعيق حركة التجارة الدولية.

 

(5) تحقيق الاستقرار النقدى بين الدول الأعضاء عن طريق معالجة الاختلالات التى قد تصيب موازين مدفعوعاتهم والعمل على تقصير أمدها والتخفيف من مداها.

 

وتعد المهمة الرئيسية للصندوق هى مساعدة الدول الأعضاء فى مواجهة العجز المؤقت فى موازين مدفوعاتها بوضع العملات المختلفة التى لدى الصندوق تحت تصرف الدول التى تعاني من صعوبات فى موازين مدفوعاتها فى المدى القصير أو المدى المتوسط.

 

وتتمثل ألية صندوق النقد الدولى عند القيام بدوره فى مجال المساعدات النقدية على اتباع سياسه تحرير الاقتصاد القومى وأبعاد الدوله عن التدخل فى الحياه الاقتصادية وترك الحريه لقوى السوق أو تقويه دور الدولة لدعم حركه قوى السوق.

 

ويقدم الصندوق قروضة التنموية لمدد قصيرة تتراوح عادة مابين ثلاث الى خمس سنوات بعد أن يقوم بدراسة الأوضاع الاقتصادية للدولة المقترضة ويتاكد من أن الإصلاح المزمع إجرائه يسمح لها بسداد ديونها وإعادة القروض وفوائدها خلال المدة المحددة.

 

ولكن، ونظراً لقصر مدة سداد القرض فأن الدول المدينة لا تستطيع تحقيق الإصلاح الاقتصادى المتفق عليه أو تحقيق النمو المطلوب لأن معظم الدول المدينة تعانى من اختلالات هيكلية عميقة فى نظامها الاقتصادى، وتحتاح الى قروض أكثر تيسيراً لتحقيق الإصلاح الاقتصادى المطلوب وبالتالى فان هذه الدول قد تعجز حتى عن سداد القروض وأن قامت بسدادها فإنها تسددها بقروض أخرى

 

وبوجه عام يمكن القول بأن آلية الصندوق تتمثل فى أن يطلب من الدول اتباع سياسه تحرير الاقتصاد القومى وتشجيع الاستثمار الخاص المحلى والدولى وابتعاد الدولة عن التدخل فى النشاط الإنتاجى والحياة الاقتصادية باعتبار أن هذا التدخل يمثل عائقاً أمام حركه التجاره الدولية وإضعاف لقوى السوق التى يمكن أن تتاثر بتدخل الدولة ودعمها لبعض السلع المحلية فى مواجهة السلع المستورده.كما يطلب الصندوق من الدولة طالبة المساعدة أن تقوم بتحرير الأسعار فى الداخل وإلغاء الدعم وتعديل الأسعار الداخلية لتتناسب مع الأسعار العالمية وعدم تدخل الدولة فى سوق العمل وعدم الالتزام بتشغيل الخريجين باعتبار أن ذلك يمثل المزيد من الأعباء على موازنة الدولة وزيادة، غير مبررة، في الإنفاق ويتبع الصندوق هذه السياسة مع الدول كافة التى تطلب مساعدته على الرغم من وجود فروقات شاسعه بين الدول من الناحية الاقتصاديه والاجتماعية.

 

(4)

 

وإجمالاً يمكننا تلخيص الأفكار المركزية التي يعتنقها البنك والصندوق الدوليين في الآتي:

 

أولاً: الأهمية الارتكازية التي تعطى للنقود وللسياسة النقدية في تفسير سير النظام الاقتصادي.

 

ثانياً: جميع الأزمات الاقتصادية في البلدان النامية هي مشاكل نقدية فحسب.

 

ثالثاً: يأتي مكافحة التضخم النقدي على قمة انشغال السياسة الاقتصادية.

 

رابعاً: تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتصفية المشروعات المملوكة للدولة، وبيع تلك المشروعات للقطاع الخاص. مع الانسحاب الكامل للدولة من مجال الخدمات العامة تاركة إياها، كلياً أو جزئياً، للقطاع الخاص.

 

خامساً: الرفض القاطع لتمويل العجز بالموازنة العامة للدولة من خلال التمويل التضخمي.

 

سادساً: حل البطالة من خلال تخفيض مستويات الأجور، مع وجوب إلغاء الدعم العيني، وتقليص إعانات البطالة بل إلغائها. وتحجيم دور نقابات العمال، بل والوصول إلى درجة المطالبة بحلها!

 

سابعاً: رفع لواء الحرية الاقتصادية، والمناداة بلا هوادة بالرجوع إلى عالم آدم سميث، العالم الذي تسيره قوانين طبيعية خالدة وتتحكم في أموره يد خافية تنسق بين كل شيء، وتوفر الهارمونية للنظام الاقتصادي.

 

(5)

 

ومن المهم هنا إبراز أهم مظاهر تدخل الصندوق في أدق الشئون الداخلية للدول المدينة، ويمكننا تحديد تلك المظاهر في ثلاثة أوجه رئيسية: التدخل في السياسات الاقتصادية. وفي منظومة الأثمان الداخلية. وفي نوعية الهيكل الاقتصادي.

 

(أ)

 

من أهم (شروط) صندوق النقد الدولي هو أن تقوم الدولة طالبة المساعدة باتخاذ إجراءات تضمن أن يكون مستوى وتوزيع الطلب الكلي يتوافقان مع الأهداف العامة التي حددتها السلطات في مجال الاستثمار والنمو الاقتصادي، وبحيث تؤدي هذه الإجراءات إلى مكافحة التضخم والحد من عجز ميزان المدفوعات.

 

وهنا تبرز في توصية/ روشتة البرنامج ضرورة الحد من عجز الموازنة العامة للدولة عن طريق زيادة الضرائب والعمل على رفع قيمة حصيلتها، وإلغاء الدعم السلعي، وزيادة أسعار البيع لمنتجات شركات القطاع العام والخدمات الحكومية، مع رفع أسعار الطاقة.

 

ورغم أن أحداً لا يختلف حول ضرورة علاج العجز بالموازنة العامة للدولة وتصحيح أوضاع القطاع العام كإجراءات هامة في تحسين الآداء الاقتصادي بتلك الدول، إلا أن الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه الصندوق في هذا الخصوص هو ضرورة إجراء تحويل تدريجي للموارد الاقتصادية لصالح القطاع الخاص؛ باعتباره القطاع الأكفأ في توزيع وتخصيص الموارد وقيادة عملية التنمية، من وجهة نظر الصندوق المتبني لأفكار النيوكلاسيك والنقديين منهم على وجه التحديد كما ذكرنا، ولذا، فإن أهم ما ينشغل به الصندوق هنا هو إلزام الحكومة بالتقيد بحد أقصى للتوسع الإجمالي للائتمان والقروض التي تقدمها البنوك للحكومة وللقطاع العام، مع إعطاء الأولوية للقطاع الخاص في الاقتراض. أما كيف يستخدم القطاع الخاص تلك القروض، وهل يستخدمها في إنتاج ما هو ضروري ويلزم لاشباع الحاجات الأساسية للجماهير؛ أم أنه يبددها في وجوه استثمارية طفيلية وكمالية، لا نفع ولا طائل من ورائها… فتلك أمور لا يهتم بهما الصندوق، المهم، وفقاً لتعاليم النقديين، هو تحويل الموارد بشكل متزايد للقطاع الخاص مهما كانت اتجاهات استثماره.

 

(ب)

 

من (الشروط) الهامة والجوهرية كذلك التي يشترطها الصندوق لمنح الدول النامية مساعدات هو ان تقوم الدولة طالبة المساعدة باتخاذ إجراءات تضمن التأثير في توزيع وتخصيص الموارد، بحيث ينتج عن ذلك ارتفاع في معدل النمو الاقتصادي وفي حجم السلع المتاحة للتصدير أو المنتجة كبديل للواردات.

 

وفي هذه الإجراءات يقترح خبراء الصندوق تخفيض الاعتماد على المشروعات الصناعية التي تحتاج إلى فترات إنشاء طويلة وإنفاق استثماري ضخم، والتركيز على المشروعات سريعة العائد. وعموماً، فإن أهم ما يرد في برامج التكييف في هذا الشأن يتمثل في أمرين جوهريين هما: إشكالية الأسعار المحلية، وإشكالية سعر الصرف والمعاملات الخارجية.

 

(أولاً) إشكالية الأسعار المحلية: ويرى الصندوق، ومعه البنك الدولي، ضرورة، وذلك كشرط، تغيير سياسات التسعير ونظم الأسعار، والاقتراب من النظام غير المقيد لقوى العرض والطلب. وهنا يطالب الصندوق، ومعه البنك الدولي، بضرورة رفع الدعم المقدم للفلاحين لقاء منتجاتهم القابلة للتصدير، وبصفة خاصة تلك السلع التي حافظت الحكومة لفترات طويلة على مستوى أسعارها بشكل منخفض أكثر من اللازم عن السعر العالمي.

 

حيث أدت هذه السياسة، ضمن عوامل أخرى، إلى تخفيض المنتجين لإنتاجهم، وبذلك تناقصت حصيلة الدولة من العملات الأجنبية. ونفس هذا المطلب يصر عليه الصندوق بالنسبة لأسعار الطاقة، وأسعار منتجات القطاع العام والخدمات الحكومية. ويضاف هنا أيضاً مسألة رفع أسعار الفائدة المدينة والدائنة.

 

(ثانياً) إشكالية سعر الصرف والمعاملات الخارجية: كذلك يصر الصندوق إصراراً بالغاً على ضرورة إجراء تخفيض في سعر الصرف للعملة المحلية! مع إلغاء القيود المفروضة على المعاملات الخارجية. وإذا كان غالبية المواطنين تضار من عملية التخفيض تلك، ومن تحرير التجارة الخارجية، إلا أن المستفيدين من وراء ذلك هم المشتغلون بالتصدير، محليون كانوا أم أجانب، وكل من يحصل على دخل بالعملة الأجنبية، فضلاً عن تجار العملة. وهؤلاء في الواقع هم السند الاجتماعي الذي يستند إليه الصندوق، ومعه البنك الدولي، في تمرير هذه السياسات.

 

(ج)

 

يتمثل الوجه الثالث من أوجه التدخل السافر من قبل الصندوق، ومعه البنك الدولي، في صميم الشئون الاقتصادية الداخلية للبلدان النامية في (اشتراطه) قيام الدول طالبة المساعدة، أو حتى إعادة جدولة ديونها، بتحويل هيكل إنتاجها القومي نحو التصدير. وذلك مطلب بديهي. ذلك أن تنمية قطاع الصادرات يضمن، من خلال ما يدره من نقد أجنبي، تسديد الديون التي اقترضها البلد النامي، سواء من الصندوق نفسه أو من المنظمات الدولية الأخرى. كما أن تنمية موارد النقد الأجنبي، من خلال استراتيجية الإنتاج الموجه للتصدير، تضمن تمويل تحويلات أرباح وفوائد ودخول رؤوس الأموال الأجنبية المستثمرة داخل البلد.

 

وفي هذا الشأن تتكامل توصيات الصندوق مع توصيات البنك الدولي بصدد السياسات التي (يشترطونها) مثل: ضرورة الترحيب بالاستثمارات الأجنبية التي ستعمل في قطاع التصدير، وحفزها للمجيء من خلال مظلة المزايا الضريبية والحماية من التأميم أو المصادرة وتوفير الحرية لها في تحويل أرباحها للخارج! والسماح لها بالمشاركة في ملكية المشروعات المحلية، مع القطاع العام أو القطاع الخاص، وأن تتاح لها إمكانية الاقتراض من سوق النقد المحلي… إلخ.

 

تلك هي، بإيجاز شديد بطبيعة الحال، أهم ملامح الخطوط المنهجية التي تتضمنها برامج التثبيت التي يمولها صندوق النقد الدولي مع البلاد النامية. والجدول أدناه يوضح البلدان التي أدخلت تعديلات تشريعية وهيكلية، وعدد تلك التغيرات، وفقاً لبرامج المؤسسات المالية والنقدية الدولية.

 

(6)

 

وإذ ما أردنا، وهو ما يتعين علينا منهجياً، الانتقال خطوة فكرية للأمام، كنقلة تطبيقية، يمكننا أن نضرب هنا مثلاً حالة رواندا، على أن نستكمل تلك الحالات في سلسلة مقالاتنا القادمة: فقد توجهت بعثة من البنك الدولي إلى رواندا في نوفمبر 1988 لاستعراض برنامج المصروفات العامة في رواندا. ووضعت سلسلة من التوصيات بغية إعادة رواند إلى طريق النمو الاقتصادي المستدام. وعرضت بعثة البنك الدولي على الحكومة الخيارات السياسية أمام البلاد في شكل سيناريوهين. السيناريو الأول المسمى”دون تغيير استراتيجي” يطرح خيار بقاء نظام تخطيط الدولة القديم. في حين كان السيناريو الثاني المسمى “مع التغيير الاستراتيجي” يقوم على إصلاح الاقتصاد الكلي، والانتقال إلى سياسات “السوق الحرة”. وبعد عدة عمليات “محاكاة” اقتصادية دقيقة للنتائج السياسية المحتملة استخلص البنك الدولي، بقدر من التفاؤل، أنه إذا اعتمدت رواندا السيناريو الثاني، فستزيد مستويات الاستهلاك زيادة ملحوظة فيما بين 1989 و1993 إلى جانب انتعاش الاستثمار وتحسين ميزان المدفوعات.

 

كما أثارت”المحاكاة” إلى آداء تصديري إضافي ومستويات أدنى كثيراً من المديونية الخارجية. وتتوقف هذه النتائج على التنفيذ السريع للوصفة المعتادة وهي تحرير التجارة وتخفيض سعر العملة، إلى جانب إلغاء كل المعونات للزراعة والتصفية التدريجية للموظفين المدنيين، والإسراع في خصخصة منشآت الدولة.واعتمد السيناريو الثاني”مع التغيير الاستراتيجي” ولم يكن أمام الحكومة خيار آخر، ونفذ تخفيض يبلغ 50% لسعر الفرنك الرواندي في نوفمبر 1990 بعد ستة أسابيع فحسب من غزو جيش الجبهة الوطنية الرواندية المتمردون أوغندا. وكان المقصود من تخفيض سعر العملة هو زيادة صادرات البن. وصور للرأي العام باعتباره وسيلة لإصلاح اقتصاد دمرته الحرب. وليس مما يثير الدهشة أن نتائج مضادة تماماً هي التي تحققت، مما أدى إلى تفاقم محنة الحرب الأهلية، فمن وضع الاستقرار النسبي للأسعار أسهم هبوط الفرنك الفرنك الرواندي في إطلاق التضخم وانهيار الدخول الحقيقية.

 

وبعد بضعة أيام من تخفيض سعر العملة أعلنت زيادات كبيرة في أسعار الوقود والمواد الاستهلاكية الأساسية. وزاد مؤشر الأسعار الاستهلاكية من 1% في عام 1989 إلى 19,2% في عام 1991. وتدهور وضع ميزان المدفوعات تدهوراً شديداً، وزاد الدين الخارجي القائم، الذي كان قد تضاعف بالفعل في عام 1985، بنسبة 34% فيما بين عامي 1989 و1993. ودبت الفوضى في جهاز الدولة الإداري، ودفعت منشآت الدولة إلى الإفلاس، وانهارت الخدمات العامة، تحت وطأة تدابير التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي. ورغم إقامة “شبكة أمان اجتماعي” خصصها المانحون للبرامج في القطاعات الاجتماعية، فقد زادت بشدة نسبة سوء التغذية الحادة بين الأطفال، وزاد عدد حالات الملاريا المسجلة بنسبة 21% في العام الذي أعقب اعتماد برنامج صندوق النقد الدولي، وذلك إلى حد كبير نتيجة عدم توافر الأدوية المعتادة للملاريا في مراكز الصحة العامة. وأدى فرض رسوم مدرسية في المدارس الابتدائية إلى انخفاض شديد في نسبة الالتحاق بالمدارس.

 

وبلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها حين اقتلع المزارعون الروانديون 300000 شجرة بن فرغم الأسعار المحلية المتزايدة جمدت الحكومة سعر البن في المزرعة عند مستواه في عام 1989 (125 فرنك للكيلو) بمقتضى أحكام اتفاقها مع مؤسسات بريتون وودز. ولم يكن مسموحاً للحكومة (بمقتضى قرض البنك الدولي) أن تحول موارد الدولة إلى صندوق التسوية. وفي يونيو 1992، أمر صندوق النقد الدولي بإجراء تخفيض جديد لسعر العملة، مما أدى، في ذروة الحرب الأهلية، إلى مزيد من تصاعد أسعار الوقود والمواد الاستهلاكية الأساسية. وهبط إنتاج البن بنسبة 25% أخرى في عام واحد.

 

ونتيجة الإفراط في زراعة أشجار البن نقصت، بشكل متزايد، الأراضي المتاحة لإنتاج الأغذية، ولكن لم يكن من اليسير أن يتحول الفلاحون ثانية إلى المحاصيل الغذائية. كان الدخل النقدي الضئيل المتحقق من البن قد تآكل، ولكن لم يعد هناك شيء يمكن الاعتماد عليه، ولم تكن العائدات النقدية من البن غير كافية لشراء الأغذية فحسب بل أن أسعار المدخلات الزراعية قد ارتفعت بشدة وأصبحت العوائد النقدية من البن غير كافية. وارتدت أزمة اقتصاد البن على إنتاج المواد الغذائية التقليدية، مما أدى إلى انخفاض شديد جداً في إنتاج تلك المواد الغذائية. في الوقت نفسه تحللت تعاونيات الإقراض والإدخار التي كانت تقدم الإئتمان لصغار الفلاحين. وفضلاً عن ذلك؛ فمع تحرير التجارة وإطلاق أسواق الحبوب كما أوصت مؤسسات بريتون وودز كانت الواردات الغذائية الرخيصة والمعونة الغذائية من البلاد المتقدمة تدخل رواندا ومعها زعزعة الأسواق المحلية.

 

كذلك، ونتيجة لتدابير التقشف وانخفاض رواتب الموظفين المدنيين (وهي الطبقة التي اشترط البنك تقليصها) شاع جو من عدم الأمان العام الذي تجلى في عام 1992.

 

وقد وثقت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) جيداً خطورة الوضع الزراعي، وحذرت من وجود مجاعة واسعة في الأجزاء الجنوبية. وكان قرار تخفيض سعر العملة، وفقاً لطلب صندوق النقد الدولي، قد صدر بالفعل في 17 سبتمبر 1990، قبل نشوب المنازعات، في اجتماعات رفيعة المستوى عقدت في واشنطن بين صندوق النقد الدولي وبعثة برئاسة نتيجوريروا وزير المالية الرواندي، وأعطى “الضوء الأخضر”: ومنذ أوائل أكتوبر في اللحظة التي بدأ فيها القتال، جاءت ملايين الدولارات مما يسمى”مساعدة ميزان المدفوعات” (من مصادر ثنائية ومتعددة الأطراف) تصب في خزائن البنك المركزي. وخصصت هذه الأموال التي يديرها البنك المركزي (من جانب المانحين) للواردات السلعية. ولكن يبدو مرجحاً أن حصة كبيرة من هذه “القروض سريعة الدفع” قد حولها النظام (ومختلف أجنحته السياسية) إلى شراء العتاد العسكري من جنوب أفريقيا ومصر وأوروبا الشرقية. وإلى جانب ذلك فقد اتسعت القوات المسلحة بين يوم وليلة منذ أكتوبر 1990 من 5000 رجل إلى 40000 رجل، مما تطلب بالحتم (في ظل ظروف ميزانية التقشف) تدفقاً كبيراً من الأموال الخارجية. وجاء المجندون الجدد أساساً من صفوف العاطلين في المدن الذين تضخمت أعدادهم كثيراً منذ انهيار سوق البن في عام 1989. كما اجتذب آلاف الجانحين والشباب الخاملين إلى الميليشيات المدنية المسئولة عن المذابح. ومكن جزء من مشتريات الأسلحة القوات المسلحة من تنظيم رجال الميليشيات وتسليحهم.

 

وبشكل عام، فمنذ بداية المعارك (التي توافقت زمنياً مع تخفيض سعر العملة والتدفقات الأولى من الأموال الجديدة) في أكتوبر 1990، بلغت قيمة المدفوعات 260 مليون دولار أمريكي، مع قدر كبير من الإسهامات الثنائية من فرنسا وألمانيا وبلجيكا والجماعة الأوروبية والولايات المتحدة. وإذا كانت القروض الجديدة قد أسهمت في تحرير الأموال لدفع خدمة الدين فضلاً عن تجهيز القوات المسلحة فإن الشواهد توحي بأن جانباً كبيراً من مساعدات المانحين لم يستخدم على نحو إنتاجي أو يوجه إلى تقديم الإغاثة في المناطق التي أصابتها المجاعات. وجدير بالذكر أن البنك الدولي (من خلال رابطة التنمية الدولية التابعة له والميسرة للقروض) قد أمر في عام 1992. بخصخصة منشأة الكتروجاز المملوكة للدولة. وكان مفروضاً أن توجه حصيلة الخصخصة إلى خدمة الدين.

 

وبمقتضى اتفاق قرض اشترك في تمويله بنك الاستثمار الأوروبي وصندوق التنمية الفرنسي كان نفروضاً أن تتلقى السلطات الرواندية في المقابل (بعد تلبية المشروطيات) مبلغاً متواضعاً هو 39 مليون دولار أمريكي يمكن أن ينفق بحرية على الواردات السلعية كما شملت الخصخصة التي نفذت في قلب الحرب الأهلية عمليات فصل للعاملين وارتفاعاً مباشراً في سعر الكهرباء مما زاد في شل المرافق العامة في الحضر. ونفذت عمليات خصخصة مماثلة لروانداتل، وهي شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية المملوكة للدولة والتابعة لوزارة النقل والمواصلات في سبتمبر 1993. وراجع البنك الدولي بعناية برنامج الاستثمار العام الراوندي. وبعد فحص مذكرات المشاريع أوصى ببيع أكثر من نصف مشاريع الاستثمار العام في البلاد.

 

وفي مجال الزراعة طلب البنك الدولي بتخفيض كبير في استثمارات الدولة، بما في ذلك التخلي عن برنامج استصلاح أراضي المستنقعات الداخلية التي كانت الحكومة قد بدأته؛ استجابة للنقص الشديد في الأراضي الصالحة للزراعة (واعتبره البنك الدولي غير مربح).

 

وفي القطاعات الاجتماعية اقترح البنك الدولي ما سمى (برنامج الأولويات) بمقتضى شبكة الأمان الاجتماعي القائم على زيادة الكفاءة، و(تخفيف العبء المالي على الحكومة) عن طريق اقتضاء رسوم المستخدمين، وتسريح المدرسين وعمال الصحة، وخصخصة الصحة والتعليم. وكلها أمور كان من شأنها تهديد، بل وهددت فع

لاً، السلم والأمن الاجتماعيين في تلك البلد التي تعتصرها الصراعات والأوضاع الاقتصادية المتردية بالأساس.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى