إقتصادمال و أعمال

محمد عادل زكي: نقد الريكاردية في تفسير التبادل الدولي

سودان ستار

 

على طريقة سميث في التفكير، يحاول ريكاردو وضع نظرية في التبادُل الدولي. فهو ينطلق من نفس فرضيات سميث حيث ميل الرأسماليين إلى الاستثمار في بلادهم ورفضهم التخلّي عن عاداتهم والارتحال إلى بلاد ذات حكومات لا يعرفون طباعها ويجهلون أحكام قوانينها. ويرتب ريكاردو على ذلك نتيجة مفادها اقتناع الرأسمالي بمعدَّلات ربح أقل وتفضيله البقاء في بلده عن البحث عن توظيف أفضل لثروته في بلدان أجنبية. وعلى الرغم من أن ريكاردو يقدّم نظريته، المستندة إلى فكرة سميث كما سنرى، ابتداءً من طرح تحكمي، سنبحثه حالًا، إلا أن تصوره، وبكل ما يحمله من ارتباك وغموض، سوف يحتل مكانة بارزة في تفسير التبادُل الدولي.

 

فحينما انشغل سميث بتحليل التجارة الخارجية توصل إلى فكرة خلاصتها أن البلد قد يتاجر مع بلد آخر ويُحقق خسارة، ومع ذلك يجد أن من مصلحته الاستمرار في هذه التجارة! طبق سميث بالفعل فكرته على التبادُل بين إنجلترا وفرنسا والبرتغال وألمانيا؛ فقد رأى سميث أن مصلحة إنجلترا، على الرغم من أن الميزان التجاري لصالح فرنسا، تتحقق بالمزيد من التبادُل مع فرنسا؛ وذلك إذا كان النبيذ الفرنسي أفضل وأرخص من النبيذ البرتغالي، والنسيج الفرنسي أفضل وأرخص كذلك من النسيج الألماني، فمن الأفضل لإنجلترا أن تشتري النبيذ والكتان من فرنسا بدلًا من شرائهما من البرتغال أو ألمانيا. ومع أن قيمة الواردات الفرنسية السّنوية قد تزداد فإن قيمة تلك الواردات السنوية سوف تنخفض بنفس (نسبة) رخص السلع الفرنسية، ذات الجودة الأعلى والثمن الأقل عن سلع البلدَين الآخرين. يفهم ريكاردو الفكرة جيدًا ويحاول تطبيقها.

 

والمثل الَّذي يضربه ريكاردو، انطلاقًا من افتراض صعوبة انتقال الرساميل من دولة إلى أخرى، يتلخص في أن البرتغال متفوقة على إنجلترا في إنتاج كل من النبيذ والنسيج؛ إذ تكفيها 80 وحدة عمل لإنتاج وحدة واحدة من النبيذ، مقابل 120 وحدة في إنجلترا. كما تكفيها 90 وحدة عمل لإنتاج وحدة واحدة من النسيج، مقابل 100 وحدة عمل في إنجلترا. والبرتغال على هذا النحو أكثر تفوقًا، نسبيًّا، في إنتاج النبيذ مما هي في إنتاج النسيج، بالنظر إلى النسب 90 :100، و80 :120.

 

وبالتالي رأى ريكاردو أن مصلحة البرتغال، من وجهة نظر المجتمع، تتحقق حينما يتخصص في إنتاج النبيذ وفي الحصول على النسيج من إنجلترا. كما أن مصلحة إنجلترا تتحقق بتخصصها في إنتاج النسيج والحصول على النبيذ من البرتغال؛ إذ على الرغم من أن إنتاج النسيج يكلّف البرتغال أقل مما يتكلف في إنجلترا، فستجد البرتغال أن تصدير النبيذ (80 وحدة عمل) إلى إنجلترا، والحصول في المقابل على النسيج (90 وحدة عمل) من شأنه أن يوفر لها (10 وحدات عمل)؛ لأنها سوف تحصل على وحدة النسيج بـ 80 وحدة عمل فحسب بدلًا من أن تتكلّف 90 وحدة. أما إنجلترا فستجد مصلحتها في أن تصدر النسيج (100 وحدة عمل) إلى البرتغال وتحصل في المقابل على النبيذ؛ لأنها في هذه المبادلة ستوفر 20 وحدة عمل؛ إذ بدلًا من إنفاقها 120 وحدة عمل في سبيل إنتاج النبيذ ستقوم بتقديم 100 وحدة عمل فحسب، هي الَّتي يتضمنها النسيج، وتحصل على النبيذ. وكل هذا يعني في مذهب ريكاردو أن النبيذ البرتغالي، الَّذي يتكلف 80 وحدة عمل، سوف يبادل بالنسيج الإنجليزي الَّذي يتكلف 100 وحدة عمل، أي أن التبادُل الدولي سيكون غير متكافىء! وعلى هذا النحو يصل ريكاردو إلى نتيجةٍ جوهرية، سوف يؤمن بها الاقتصاد السّياسي من بعده أو على الأقل سوف يعتد بإطارها العام مع اختلاف التفسيرات والأسانيد، هذه النتيجة هي أن التبادُل الدولي محكومٌ بقوانين تختلف عن تلك الَّتي تحكم التبادُل الداخلي من جهتَي منظم القيمة ومحددها: “القيمة النسبية للسلع الَّتي يتم تبادلها بين بلدين أو أكثر لا تنظمها نفس القاعدة الَّتي تنظم القيمة النسبية للسلع في البلد الواحد… إن كمية النبيذ الَّتي ستقدمها البرتغال مقابل نسيج إنجلترا لن تتحدد بكمية العمل الكائنة في كل من السلعتين كما لو أن السلعتين أنتجتا في إنجلترا أو في البرتغال”.

 

فلنرجع إلى مثال ريكاردو، ونبحث العلاقة بين السلعتَين في البلد الواحد، أي العلاقة بين النبيذ والنسيج البرتغاليَّين، والعلاقة بين النبيذ والنسيج الإنجليزيَّين. ثم العلاقة بين كل سلعة من السلعتَين في كل بلد من البلدين. وفقًا لريكاردو لدينا قاعدة ذات ثلاثة أجزاء، يقول الجزء الأول منها إن: “عمل 100 إنجليزي لا يُبادل بعمل80 إنجليزيًّا”.

 

وإعمالًا لهذا الجزء الأول من القاعدة، والَّذي يتطابق مع قانون القيمة، فلن تُبادل وحدة واحدة من النبيذ البرتغالي الَّذي يتكلَّف 80 وحدة عمل، بوحدة واحدة من النسيج البرتغالي الَّذي يتكلَّف 90 وحدة عمل، وإنما سيتم التبادُل وفقًا لقانون القيمة بنسبة 80 : 90 أي أن وحدة واحدة من النبيذ البرتغالي سوف تبادل بـ 0,88 وحدة تقريبًا من النسيج البرتغالي، وهذا تبادلٌ متكافىء.كذلك الأمر بصدد النبيذ والنسيج الإنجليزيَّين، فلن تُبادل وحدة واحدة من النبيذ الإنجليزي الَّذي يتكلف 120 وحدة عمل بوحدةٍ واحدة من النسيج الإنجليزي الَّذي يتكلف 100 وحدة عمل، وإنما سيجري التبادل، وفقًا لقانون القيمة أيضًا، بنسبة 120: 100 أي أن وحدة واحدة من النبيذ الإنجليزي ستبادل بـ 1,20 وحدة من النسيج الإنجليزي. وهذا أيضًا تبادل متكافىء. فأين إذًا التبادل غير المتكافىء؟ الواقع أن التبادل غير المتكافىء يبدأ وينتهي مع الجزء الثاني من القاعدة الَّذي يقول:”يمكن أن يُبادل عمل 100 إنجليزي بعمل 80 برتغاليًّا أو60 روسيًّا أو 120 هنديًّا”.

 

وفقًا لهذا الجزء الثاني من القاعدة، والَّذي لا يستند إلى أي سبب معقول، يتقرر مبدأ التبادُل غير المتكافىء كإمكانية. ولكن لم عمل 100 إنجليزي لا يُبادل بعمل 80 إنجليزيًّا، ويُبادل بعمل 80 برتغاليًّا أو60 روسيًّا أو120 هنديًّا؟ يجيب ريكاردو بالجزء الثالث والأخير من القاعدة: “يمكن شرح ذلك بسهولة من خلال تحديد الصعوبة الَّتي تواجه تحرك الرأسمال بين بلد وآخر”.

 

حسناً، علمنا الآن أن التبادل الدَّاخلي متكافىء. ولكنه غير متكافىء على الصعيد الخارجي! لماذا؟ لأن التبادُل الداخلي محكوم بقانون القيمة، أما التبادل الخارجي، لدى ريكاردو، فمحكومٌ بالصعوبات الَّتي تواجه حركة الرساميل عبر الحدود الدولية! هكذا يطرح ريكاردو نظريتة في التبادل الدولي! ولنلاحظ أن التبادل بين النبيذ البرتغالي الَّذي يتكلف 80 وحدة عمل، وبين النسيج الإنجليزي الَّذي يتكلف 100 وحدة عمل، لم يأتِ نتيجة استخلاص معقول أو ترتيب منطقي، بل جاء تحكميًّا ومخالفًا للمنطق نفسه. فالبرتغال، في مثال ريكاردو، لم تعد تنتج النسيج بمجرد تخصصها في إنتاج النبيذ، وعليها الآن أن تتزود بالنسيج الإنجليزي الَّذي يتكلف 100 وحدة عمل، وفي المقابل تُصدّر لإنجلترا النبيذ الَّذي يتكلف لديها 80 وحدة عمل. ويتم التبادل على هذا النحو بنسبة 1 : 1. أي وحدة من النسيج مقابل وحدة من النبيذ. ولكن هذا الفرض غير واقعي من جهة، ويُخالف قانون القيمة، دون سندٍ سائغ، من جهة أخرى:

 

(1) فهو غير واقعي لأن الرساميل، ربما، لن تنتقل من إنجلترا إلى البرتغال لإنتاج النبيذ والنسيج، وهذا هو السند الَّذي يُشيد عليه ريكاردو نظريته بأسْرها، ولكن النبيذ والنسيج البرتغاليَّين نفسهما سوف ينتقلان إلى إنجلترا لجني المزيد من الأرباح النَّاشئة عن اختلاف القيمة الاجتماعية في كلّ من البلدين. فتاجر النبيذ البرتغالي يستطيع أن يبيع نبيذه في إنجلترا بـ 85 وحدة ويجني 5 وحدات ربحًا إضافيًّا. كما يمكن لتاجر النسيج البرتغالي أن يبيع نسيجه في إنجلترا بـ 95 وحدة ويجني بالتالي ربحًا إضافيًّا قدره 5 وحدات كذلك. وذلك كله دون انتقال الرَّساميل من إنجلترا إلى البرتغال.

 

(2) طبقًا لقانون القيمة يجب أن يأتي التبادُل بين السلعتَين، أي بين النبيذ البرتغالي والنسيج الإنجليزي بنسبة 80 : 100 أي 0,8 : 1، وليس 1:1، وتُؤخذ في الاعتبار، وطبقًا لقانون القيمة أيضًا، جميع الصعوبات المشار إليها كنفقات الشحن والنقل ومصاريف انتقال الرساميل عبر الحدود وتغيُّر التكاليف… إلخ، ولا يوجد أي مبررٍ مفهوم، أو حتَّى غير مفهوم، لجعل التبادل يتم بين النبيذ البرتغالي (80 وحدة عمل) والنسيج الإنجليزي (100 وحدة عمل) بنسبة 1 : 1 أي على نحو غير متكافىء! إلا أن يتم افتراض، وبطريقة تحكمية دون سند من واقع، أن التبادل بين النبيذ البرتغالي والنسيج الإنجليزي يجري، وعلى نحو غير متكافىء، بنسبة 1: 1. وهذا بالتحديد ما فعله ريكاردو، وسار خلفه علم الاقتصاد السّياسي

خلال مئتي عامًا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى