يستلزم نقد العِلم الاجْتماعيّ إجراءَ النقد الأوَّلي لمكونات الحضارة المنتَجة له، وبالتَّالي نقد الذّهن الصَّانع لهذا العلم الكاشف عن قوانينه الموضوعيَّة. ولأن الاقْتصَاد السِّياسيّ علمٌ أورُوبي النشأة؛ فيجب أن نتعرَّف إلى مُكونات الحضارة الأورُوبيَّة الَّتي أنتجته؛ كي نفهم الظروف الموضوعيَّة والتَّاريخيَّة اللتين أدَّتا إلى تشكّله كعلمٍ اجْتماعيّ على النَّحو الَّذي هو بين أيدينا الآن؛ ومن ثم يمكننا نقده دَاخليًّا وخارجيًّا. والفرضيَّة المْنهجيَّة الَّتي نطرحها هنا هي أن الحضارة الأورُوبيَّة المنتجة للاقْتصَاد السِّياسيّ تتألَّف من ثلاثة مكونات مُترابطة، بل متلاحمة، أثَّرت بدورها في نشأة علم الاقْتِصَاد السِّياسيّ وتحديد موضوعه ومنهجه. تلك المكونات هي:
· المسيحيَّة الرُّومانيَّة، بعبارةٍ أدق: النصرانيَّة بعد رَوْمَنَتها.
· المجد الرُّومانيّ، الَّذي سيرثه المحارب الجرمانيّ.
· العلم اليونانيّ، الْوريث التَّاريخيّ لعلوم الحضَارات الشرقيَّة القديمة.
ولنتعرَّف الآن إلى كل مُكوّن من هذه المكونات بالقدر الَّذي يُسعفنا في سبيلنا لتكوين الْوَعْي، النَّاقد، بمحدّدات الحضَارة الَّتي أنتجت عِلم الاقْتصَاد السِّياسيّ.
أولاً: المسيحية الرومانية
لقد نشأت النصرانيَّة، نسبة إلى النَّاصرة بلدة يسوع، في بيئة يهودية وظلت تنمو في سنواتها الأولى وتنتشر في أرجاء الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، فبلغت سوريا وآسيا الصُّغرى وأنطاكية ومصر واليونان حتَّى قرعت أبواب روما نفسها. وخلال ثلاثة قرون تقريبًا (58- 311)، تعرضت الجماعات المسيحيَّة الأولى للاضطهاد والتنكيل؛ فلقد مثَّل الجانب الثوري في دعوة يسوع ضد القهر الرُّوماني تهديدًا مباشرًا لوحدة إمبراطوريَّة تقوم على التَّنظيم الْعسكريّ الصَّارم. كما سيمثل الصراع، بعد المسيح، بين الطوائف الرَّسوليَّة بؤر تَوتُّر تُنذر بحروبٍ أهلية، ومن ثم أخذت روما تنظر إلى الجماعات المْسيحيَّة كتياراتٍ سياسيَّة مُناوئة أو مُتمردة يجب قمعها. ظل هذا القمع الرَّسميّ المنظَّم من قبل الدولة على أشدّه حتّى صدور مرسوم الإمبراطور جاليريوس (311م) الَّذي أعلن تسامح الدولة مع الديانة المسيحيَّة. ومع مرسوم ميلانو (313م) الَّذي أصدره الإمبراطور قسطنطين (272-337) تم الاعتراف رسميًّا بالمسيحيَّة، كما تقرر مبدأ حياد الدولة تجاه العقائد كافة.خلال تلك الفترة، الممتدة من أوائل القرن الأول حتى مُنتصف القرن الرابع، تم استكمال البناء الدَّاخليّ للتَّنظيم الكنسيّ؛ فلقد كُتبت الْأناجيل وتشكّلت الطقوس وقُررت الصلوات، الَّتي لم يؤدها يسوع نفسه، وسُنَّت قوانين الإيمان. كما تبلورت الوظائف الدينية والمراتب الكهنوتيَّة في إطارٍ من الغموض والاحتكار التدريجيّ للعقيدة والحقيقة من قبل المؤسَّسة الكنسيَّة! وحينما اجتاحت القبائل الجرمانيَّة الإمبراطوريَّة الرُّومانية، وباتت تمثل خطرًا على العاصمة الإمبراطوريَّة، روما، قام الإمبراطور قسطنطين، في عام 330، بنقل عاصمة الإمبراطوريَّة إلى بيزنطة على مضيق البوسفور. وهناك تسربلت المسيحيَّة سربالًا إمبراطوريًّا صريحًا. فلقد كانت الفترة الممتدة من حكم الإمبراطور قسطنطين حتى حُكم الإمبراطور ثيودوسيوس (347-395)، أي الفترة من عام 306 حتى عام 395، كافيةً تمامًا كي يتم استكمال البناء الخارجيّ للتنظيم الكَنسيّ. كافية كي تصطبغ المسيحيَّة بالصبغة الرُّومانيَّة! كافية كي تتحول المسيحيَّة من مسيحيَّة النَّاصرة النقيَّة إلى مسيحيةٍ إمبراطوريَّة! ففي تلك الفترة قرَّب الأباطرة رجال الكنيسة واكتسبوا من خلالهم القداسة والشرعيَّة. في الوقت نفسه شرعت الكنيسة في التشكُّل كمؤسَّسة موازية للقصر الإمبراطوريّ. نعم تخضع الكنيسة، بقيادة البطريرك، لسلطة الإمبراطور البيزنطيّ ولكنها تتخذ شكلًا إمبراطوريًّا يليق بمقام عقيدة الإمبراطور نفسه؛ فلقد ارتدى البطريرك المعطف الملكي وأمسك بالصولجان المرصَّع ووضع على رأسه التَّاج المذهَّب وسكن القصور المنيفة، وأحيط بهالةٍ لم يَحظ بها سوى الأباطرة، وهو ما استصحب تأكيد احتكار المؤسَّسة الدينيَّة للعقيدة وتجريم تفسير الكتاب المقدَّس بالمخالفة لرأي رجال الدين، وكلاء الرب، فهم بمفردهم الَّذين يملكون الحقيقة الَّتي عرَّفها الرب لهم، ولهم وحدهم! وفي أثناء حكم الإمبراطور ثيودوسيوس وقد صارت المسيحيَّة الديانة الرَّسميَّة للإمبراطوريَّة مع عدم الاعتراف بأيّ عقائد دينية أخرى، تم تقسيم الإمبراطوريَّة بين أبناء الإمبراطور: أركاديوس وهونوريوس. فأصبح الشرق من نصيب الأول، وبات الغَرب من نصيب الثَّاني. لم يصمد الجزء الثَّاني كثيرًا أمام هجمات الجرمان؛ فسقطت الإمبراطوريَّة الغربيَّة، وقامت ممالك الملوك الجُدد. ملوك القبائل الجرمانيَّة. ولكن ممالك الجرمان لم تؤسَّس من تلقاء نفسها وبمجرد احتلال الأرض. فلقد كانت دائمًا نفس المشكلة تواجههم، وهي المتعلّقة بكيفيَّة حُكم الأراضي الجديدة؟ فمع تهاوي الإمبراطوريَّة الغربيَّة صارت الأراضي في غرب أوروبا بلا حاكم. ولأن الجرمان كانوا عديمي الخبرة في إدارة الدول وفي تشغيل المؤسَّسات، وكان من مصلحتهم أن تستمر الإدارات الرُّومانيَّة في عملها. ولأن الكنيسة، في نفس الوقت، كانت المؤسَّسة المنظمة الوحيدة الَّتي تمكنت من البقاء كأقوى سلطة في غرب أوروبا بعد سقوط روما، فقد استقبلت الكنيسة الرُّومانيَّة القبائل الجرمانيَّة وتعاونت معها فوضعت لها نظم الإدارة وقواعد الحكم والسياسة، وحوَّلت زعماء القبائل ومحاربيها من برابرة وثنيين إلى مسيحيين أتقياء! لقد حوَّلت الكنيسة الرُّومانيَّة المحارب الجرمانيّ الوثنيّ القادم من شمال أوروبا إلى فارس صليبي روماني. لقد جعلت المحارب الجرمانيّ، المغرم بالحرب، يحارب من أجل العقيدة الإلهيَّة، وليس من أجل النَّهب والسلب. والواقع أن الكنيسة الرُّومانيَّة لم تقم فحسب بتحويل الجرمان إلى فرسان صليبيين، ولم تكتفِ بتحويل زعماء القبائل إلى ملوكٍ يضعون التيجان فوق رءوسهم، بل جعلت من أحدهم إمبراطورًا رومانيًّا؛ حينما وضع البابا ليو الثالث (750-816) التَّاج على رأس شارلمان (742-814) ملك الْفرنجة، في عام 800، وأعلنه إمبراطورًا رومانيًّا، وفي عام 962 توَّج البابا يوحنا الثَّاني عشر(937-964) الملك أوتو الأول (912-973) ملك جرمانيا، إمبراطورًا للإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة المقدَّسة للأمة الجرمانيَّة، الوريث التَّاريخيّ للإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة. لقد صَنَعت الكنيسة الرُّومانيَّة الأباطرة بنفسها!
على كل حال، حينما استولت جحافل الجرمان على أراضي الإمبراطوريَّة الغَربيَّة، سيطر رؤساء القبائل، الملوك الجُدد، على الأرض الَّتي صارت بدون حُكمٍ مركزيّ، ومن ثم أقطعوا قادة جيوشهم المساحات الشَّاسعة من الأراضي في مقابل الطَّاعة وحماية عروشهم ومد سلطانهم ونفوذهم إلى مناطق أبعد، الأمر الَّذي أدّى إلى تكوُّن التَّنظيم الاجْتماعيّ الإقْطاعيّ. في إطار هذا التنظيم نشأ الصراع المرير، والدَّامي أحيانًا، بين الملوك وكبار الملَّاك من جهة، وبين الملوك والكنيسة من جهةٍ أخرى. كما شاعت الخرافة وتردَّت الأحوال الاجْتماعيَّة لفترة دامت ألف سنة تقريبًا. وتمكنت الكنيسة الرُّومانيَّة في ظل ذلك من ترسيخ سلطانها ووجودها السِّياسيّ والاجْتماعيّ كأخطر مؤسَّسة في القرون الْوسطى. فمن خلال تنظيمٍ هرمي مُحكم أخذت الكنيسة في تدعيم نفوذها الدينيّ والدنيويّ بوصفها المؤسَّسة الْوحيدة المعبّرة عن إرادة السماء! والمصدر الوحيد الَّذي يُكسب الملوك الشرعيَّة وحكمهم القداسة! ويُخلّص الرعيَّة من الخطايا! كما عَمِلَت دائمًا من أجل الحفاظ على المكاسب الاقْتصَاديَّة الهائلة الَّتي حققتها، بوكالتها عن الرب، كأكبر إقطاعي، وأكبر جاب للضرائب، وأكبر قاتل للبشر الَّذين يرتكبون خطيئة التفكير! بيد أن تلك السطوة الكنسيَّة الطَّاغية سوف تتفتت عَبْر ثلاث مراحل تاريخيَّة تبدأ بالاحتجاج وتمر بالفصل بين الدين والدَّولة وتنتهي بالموقف الرَّفض للدين نفسه. فخلال ألف سنة تقريبًا لم تعرف الهيمنة الشَّاملة للكنيسة الرُّومانيَّة على روح المجتمع الأوروبيّ وعقله أي خروج عليها إلا في أوائل القرن السَّادس عشر حينما تزعّم مارتن لوثر (1483- 1546)، حركة الإصلاح الديني محتجًا على احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدَّس، مُعلنًا أن الخلاص سيكون بالإيمان وليس من خلال رجال الدين، وكلاء الرب، الَّذين قاموا ببيع صكوك الغفران. وإذا كانت حركة مارتن لوثر، الَّتي أسَّست البروتستانتيَّة كتيار إصلاحي مُضاد للكاثوليكية، بمثابة خطوة أولى في سبيل عزل الكنيسة الرُّومانيَّة اجْتماعيًّا وتصفيتها على الأقل مَعنويًّا، فإن صلح وستفاليا (1648م) سوف يمثل الخطوة الثانية في نفس الاتجاه. فبعد صراع دموي بين الكاثوليك والبروتسانت، بل وبين جناحي البروتستانتيَّة ذاتها، اللوثريَّة والكلفنيَّة، دام عشرات السنين وأسفر عن آلاف المذابح وملايين القتلى، تقرر رسميًّا مبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الدَّاخليَّة للدول، بصفةٍ خاصَّة من قبل السلطة الكنسيَّة، مع إدانة، ومن ثم منع، فرض الأمراء لأي دين أو مَذهب على اتباعهم. بصفةٍ خاصَّة الأمراء الألمان. حينئذ شعر الأورُوبيّ ولأول مرة بالحريَّة. كما أدرك الضمير الأوروبيّ أن الصراع الدينيّ لم يكن سوى صراعًا مقيتًا على السلطة والذَّهب. ومن ثم توجَّه الضمير الجمعيّ صوب العِلم لإعادة فَهم العالم بعيدًا عن الدين والكهنوت والوصاية الكنسيَّة، وبالتَّالي ضعف نفوذ الكنيسة الرُّومانيَّة القائم بالأساس على خلق الوَعْي الزَّائف. تَساوق كل ذلك مع اضمحلال الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة المقدَّسة وتراجع نفوذ الإمبراطور الرُّومانيّ نفسه بعد أن فقد حوالي 100,000 كم في الأراضي المنخفضة عقب إعلان استقلال هولندا، وكذلك سويسرا، عن الإمبراطوريَّة المقدَّسة، مع توسيع السويد لنفوذها في الشمال. بالإضافة إلى تشظّي السلطة بين مئات الأمراء الألمان الَّذين أعلنوا استقلالهم وتمَّ الاعتراف القانونيّ بسلطاتهم. أما الثورة الفرنسيَّة (1789م)، والَّتي كانت كذلك خطوة مهمة في مواجهة استبداد ملوك وأمراء غرب أوروبا، فهي الخطوة الثَّالثة في سبيل تفتيت نفوذ الكنيسة الرُّومانيَّة. فمع الثورة الفرنسيَّة فقد الدين سطوته خارج أبواب الكنائس؛ فلقد تحررت الحياة الاجْتماعيَّة من طغيان وكلاء الرب. والواقع أن الرفض الجمعيّ للمسيحيَّة، ككهانة وديانة، لم يكن نتيجة لمراجعةٍ عِلميَّة بل كان نتيجة لظروف اجْتماعيَّة عصيبة أدَّت إلى مَقت سطوة رجال الدين، وهو ما استتبع العمل بلا هوادة من أجل تفتيت قوة المؤسَّسة الدينية برفض وجود الدين نفسه. وبالتَّالي لم يعد مقبولًا أيّ طرح ديني، أو تفسير لاهوتي، لأيّ ظاهرة اجْتماعيَّة أو طبيعيَّة.
ثانياً: المجد الروماني
ابتداءً من القرن الثاني عشر قبل الميلاد تدفق الرُّومان من شرق أوروبا إلى شبه الجزيرة الإيطاليَّة مؤسسين روما القديمة عاصمة لهم. وافتتانًا بالحضارة اليونانيَّة نظَّم الرُّومان دولتهم، وأبدعوا في علوم القانون، وأخذوا في التوسُّع العسكريّ حتّى تمكنت جيوش روما من فرض هيمنتها على كامل الأراضي الإيطاليَّة، ثم انطلقت لإحكام السيطرة على ممالك العالم القديم. فمن الجُزر البريطانيَّة وسواحل المحيط الأطلسيّ غربًا إلى بلاد ما بين النهرَين وبحر قزوين شرقًا، ومن وسط أوروبا وجبال الألب شمالًا إلى الصحراء الكُبرى والبحر الأحمر جنوبًا، نشأت الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة كدولة توسُّعية ذات طابع استعماريّ. وحينما سقطت روما في منتصف القرن الخامس الميلاديّ، وورث الملوك الجرمان النظام الإمبراطوريّ، نشأت دول غرب أوروبا بخاصَّة إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا وهولندا كممالك توسُّعية حاملة شُعلة المجد الرُّومانيّ، وسيصبح العالم بأسْره حقلًا لعملياتها الاستعماريَّة. ولم يكن من الممكن أيديولوجيًّا اعتبار العالم مَسرحًا لتمدد حدود هذه الدول الاستعماريَّة إلا ابتداءً من أيديولوجيَّة استعماريَّة/ استبعاديَّة أساسها اعتبار كل ما هو غير أوروبيّ، تمامًا كما كانت روما تنظر إلى غيرها، خارج الحضارة الإنسانيَّة وفي انتظار أوروبا من أجل (إعماره!) وجعله مُتحضرًا مثل أوروبا! فكما نظرت روما إلى الجرمان كبرابرة، نظر الجرمان، بعد رَومنتهم، وأحفادهم من بعدهم، إلى غيرهم نفس النظرة المتعالية؛ فقبائل أمريكا الجنوبيَّة وَثنية يجب هدايتها أو إحراقها والاستيلاء على كنوزها! والأفارقة عبيدٌ أدنياء! والعرب أجْلَافٌ بالسليقة! والمسلمون هَمج رعاع! والحضارة، بجميع مفرداتها وظواهرها الاجتماعيَّة، لم تبدأ إلا من أوروبا! مع نشأة تلك الممالك تصبح مهمة المحارب الجرماني مركَّزة في الزود عن المملكة وحماية الملك. وفي مرحلة تالية سيكون مَطلوبًا منه ما هو أكبر وأسمى، فالمهمة المقدَّسة ستصبح استرداد قبر ابن الرب من خلال الحملات الصليبية. وما أن انتهت هذه الحملات، الَّتي امتدت من أواخر القرن الحادي عشر حتّى منتصف القرن الخامس عشر وهدفت، ظاهريًّا، إلى استرداد قبر ابن الرب من يد العَرَب! إلا وتطورت المهمة المقدَّسة من استرداد قبر ابن الرب إلى نشر عقيدة الرب، من خلال التوسُّع الاستعماريّ، بين الوثنيين والكافرين في أمريكا وأفريقيا! إن التبشير بدين الرب، تحت راية الرب، لم يمنع أبدًا من الاستيلاء آنذاك على كنوز هذه القارات واستعباد أهلها وإبادة سُكَّانها! وفي مرحلةٍ تاريخيَّة مُتقدمة نسبيًّا تفقد مهمة المحارب شكلها الدينيّ وتتخذ شكلًا قَوميًّا؛ فقد تم تجنيد المحارب كي يُدافع عن الطبقات الحاكمة الجديدة لا عن الملك أو الكنيسة. فلسوف تُحطم الثورة الصناعيَّة في غرب أوروبا كل الروابط الاجْتماعيَّة الَّتي كانت تدور في فلك الحمية الدينية وأخلاقيات النبالة ومثاليات الفروسيَّة وستحل محلها علاقات التبادُل السلعيّ والربح النقديّ. وسيسحق التثوير المطرد لوسائل الإنتاج الرغبة الجماعيَّة وكل القيم والمثل العُليا الَّتي كانت تُسيطر على المجتمع وسيحل محلها سلوكيات الفرديَّة المطلقة والأنانيَّة المفرطة. استلزم كل ذلك التحوُّل من السلطة السياسيَّة المطلقة، أو حتّى المقيدة بنفوذ البرلمان أو سلطة الكنيسة، إلى دولة المؤسسات المعبرة عن مصالح الطبقة الرأسماليَّة الآخذة في النمو آنذاك بقوة كطبقة مُسيطرة. كما استتبع الانتقال من التنظيم الاجْتماعيّ الإقطاعيّ القائم على الملكيات العقاريَّة الكبيرة وعمل الأقنان إلى التنظيم الاجتماعيّ البرجوازيّ القائم على حرية النشاط الاقْتصَاديّ والملكية الفردية لوسائل الإنتاج والعَمل المأجور. ومع هذا التطوُّر، والتغيُّر في شكل وطبيعة التَّنظيم الاجْتماعيّ ومؤسساته المركزيَّة، أضيفت إلى المحارب الجرمانيّ، إلى جانب مهمة القتل والتدمير، مهمة أخرى، صارت الأهم، وهي تدعيم النفوذ السِّياسيّ والاقْتصَاديّ للدول الأوروبيَّة، وترسيخ هيمنتها الثقافيَّة، كدول قوميَّة استعماريَّة، في البلدان المستعمَرة، الَّتي ستتحول بعد استقلالها الزَّائف إلى بلدانٍ تابعة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. وهكذا فرضت أوروبا، بواسطة محاربيها، هيمنتها الثقافيَّة والحضَاريَّة ابتداءً من تصور أُحادي للعالم، ونظرة شوفينية للتَّاريخ الإنسانيّ، وانطلاقًا من رؤية استبعاديَّة لكل ما هو غير أوروبي من تاريخ الحضارة الإنسانيَّة!
ثالثاً: العلم اليوناني
عادةً ما يُقدَّم التَّاريخ العِلميّ لأوروبا بل وللعالم بأسْره، ابتداءً من أرض اليونان، إذ في تلك البلاد، كما اعتاد المؤرخ الأوروبيّ أن يقول، بدأ العِلم؛ حيث ظهرت علوم الفلسفة والفلك والهندسة… إلخ. ولكن الواقع التَّاريخيّ يؤكد على أن البدايات الأولى لتلك العلوم تشكَّلت في سومر وبابل وأشور ومصر وفينيقيا وفارس. ولم يكن الفيلسوف اليونانيّ سوى وريثًا تاريخيًّا، ربما نبيهًا ومجتهدًا، لتلك الحضارات. فلقد تلقَّى هذه العلوم عن حضارات العالم الشرقي القديم. وربما نَسَب، خِلسةً، جٌل أو كل تلك العلوم إلى نفسه! وهو بتلك المثابة يدين بالكثير لهذه الحضارات العَريقة. ولقد كانت الطريقة الَّتي تُنتج بها المعرفة هي أهم ما ورثه الفيلسوف اليونانيّ عن الحضَارات الشرقيَّة القديمة، وهي نفس الطَّريقة الَّتي سيرثها العالم الإسلاميّ في عصره الذَّهبيّ، ثم يُعيد تقديمها إلى أوروبا في عصر النهضة، كي تُمثل ذات الطريقة عماد عصر الأنوار بعد ذلك. أنها الطريقة القائمة على تصنيف المبادىء والأصول واستخلاص المشترك وجمع المتشابهعلوًّا بالظاهرة الَّتي يَنشغل به الذهن عن كل ما هو ثانوي وغير مُؤثر. تلك الطريقة سيُصطلح على أن تُسمى “التجريد”. ومع الوَعْي بأن الأناجيل نفسها قد كُتبت باللغة اليونانيَّة، ونادرًا ما يُكتب نصٌ بلغةٍ ما دون أن يَحمل ثقافة تلك اللغة، بالإضافة إلى دخول عدد كبير من الأمم في الديانة المسيحيَّة بما يحملون من ثقافات وفلسفات يونانيَّة ومحاولاتهم الدمج بين هذه الفلسفات والإيمان المسيحيّ، فلقد قدّر للعلم اليونانيّ (بما يعتمد عليه من طريقة لإنتاج المعرفة) أن يُنقَذ من الضياع عبر ثلاث مراحل تاريخيَّة. ففي مَرحلة أولى قدّر له الاستمرار، بعد تفكك العالم الهلنيستيّ على يد الجيوش الرُّومانيَّة، بفضل الدور الجوهريّ الَّذي أدَّاه هذا العلم في الجدل الدَّائر في الإمبراطوريَّة الشرقيَّة حول طبيعة المسيح والروح القدس، بصفةٍ خاصَّة في المجامع الكنسية الأربعة المنعقدة في نيقية (325م) والقسطنطينية (381م) وأفسس (431م) وخلقدونية (451م)، إذ وجدت كل فرقة، والكنيسة كذلك، ضالتها في العِلم اليونانيّ فاستخدمت أفكاره ومُصطلحاته في سبيل الانتصار لمذهبها ولدعواها في مُواجهة خصومها. وهكذا أنقذت الإمبراطوريَّة الشرقيَّة العِلم اليونانيّ وحافظت على طريقة إنتاج المعرفة من الضياع حينما احتضنت بيزنطة، بهذا القدر أو ذاك، الصراع الفكريّ الدَّائر بين التيارات المسيحيَّة المختلفة. وفي مرحلةٍ تاريخيَّة ثانية تقوم بإنقاذه الحضارة الإسلاميَّة الَّتي استقبلته من خلال الاحتكاك الحضاريّ مع بيزنطة، وأضافت إليه (في بغداد والقيروان وقرطبة) طوال القرون الممتدة من القرن العاشر حتّى القرن الخامس عشر، ولكي تقدّمه إلى أوروبا، بصفة خاصة خلال فترة الحروب الصليبيَّة الَّتي كانت بمثابة أحد المعابر الفكريَّة لانتقال مركز الثقل الحضاريّ من الشرق إلى الغرب. وما أن استقبلت أوروبا، بصفةٍ خاصَّة المدن الإيطاليَّة، هذا التراث، وتلك هي المرحلة الثَّالثة في تاريخ الحفاظ على التراث اليونانيّ وطريقة إنتاج المعرفة، حتّى نهضت هذه المدن نهضتها العالميَّة المدهشة والَّتي مهَّدت لمراجعة ونقد العلم اليونانيّ نفسه، في عصر الأنوار، استخدامًا لنفس طريقة التفكير المنتِجة للمعرفة، ابتداءً من القرن السَّابع عشر، إيذانًا بنشأة الفكر الأوروبيّ الحديث القائم على التَّجريد. التَّجريد الَّذي سيبسط نفوذه على العالم المعاصر، كما بسط نفوذه عَبْر تاريخ الإبداع الفكريّ لجنسنا البشريّ.
في هذا الإطار وُلد، وتَشكَّل، الاقْتصَاد السِّياسيّ. إذ نشأ:
· عِلمًا تجريديًّا، يعتمد على تَصنيف الظواهر، محل انشغاله، مع العُلو بها عن كل ما هو غير مُؤثر في الظَّاهرة محل البحث. فهو يَستبعد الثانويّ، ويَجمع المتشابه، ويَستخلص المشترك، ويستنتج الأصول الواحدة، دون انشغال بالتفاصيل الَّتي تعوق الفهم النَّاقد للظَّاهرة الاجْتماعيَّة موضوع بحثه.
· دارسًا للظاهرة الاجْتماعيَّة محل انشغاله بمعزل عن الدين الَّذي أمسى مَرفوضًا وجوده الاجْتماعيّ، ليس ابتداءً من تفنيد عِلمي للدين الوضعيّ المسيحيّ، وهو ما كان يمكن أن يؤدّي إلى نفس النتيجة، إنما رفضًا للمسيحيَّة نفسها ابتداءً من إدانة تسلُّط رجال الدين، وكلاء الرب، وتَحررًا من قهر الكنيسة الَّتي احتكرت الحقيقة الاجْتماعيَّة، واسترقَّت أرواح الملايين من البشر طِيلة ألف سنة.
· مُنطلقًا من غرب أوروبا لشرح وتفسير الظواهر الَّتي برزت في غرب أوروبا ابتداءً من القرن السَّابع عشر تقريبًا. وبالتالي: مُتخذًا من غرب أوروبا حقلًا للتَّحليل على الصعيدَين التَّاريخيّ والواقعيّ معًا. مُستبعدًا دراسة تاريخ الظَّاهرة وواقعها في الأجزاء الأخرى من العالم استبعاده لوجود أي حضارة غير حضارة أوروبا! ومن ثم اعتبر جميع الظواهر محل دراسته من قبيل الظواهر غير المسبوقة تاريخيًّا، وأنها بالتَّالي ظواهر لم تنشأ إلا في أوروبا ثم انتقلت من أوروبا إلى العالم بأسْره. وفي مُقدمة هذه الظواهر في حقل النشاط الاقْتصَاديّ بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السُّوق.
—————–