كتابات

أبية الريح – من وحي الحرام في البيت 

سودان ستار _ أدب تأملي

 

“أربعون ألف سنة من لغة الإنسان، ولا يمكنك أن تجد حرفًا واحدًا يصف الشعور الذي بداخلك تمامًا.”

إميل سيوران

—————–

 

وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ مِن شَتَّى البِلَادِ، مُخْتَلِفَةُ السِّحْنَاتِ، تَبْدُو مَأْلُوفَةً وَغَيْرَ مَأْلُوفَةٍ، وَبَعْضُهَا ذَعِرَةٌ، وَبَعْضُهَا جَمِيلَةٌ. مَلَامِحُ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مَعَانِيَ لِلْحُبِ، وَأُخْرَى لِلْخَوْفِ، وَأَكْثَرُهَا تَوَاجُدًا هِيَ تِلْكَ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنِ الغُرَابَةِ وَالدَّهْشَةِ.

عُطُورٌ مِن أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ تَزْكُمُ أَنْفِي بِكِثَافَةٍ.

خُطُواتٌ مُسَرِعَةٌ، ذَهَابًا وَإِيَابًا، تُصْدِرُ إِيقَاعًا بَاهِتًا.

شُعُوبٌ مُتَنَاثِرَةٌ حَوْلَ المكَانِ، وَأَنَا مِن أَقْصَى بِلَادِ العَالَمِ بَيْنَهُمْ.

جَلَسْتُ فِي بَاحَةِ المَسْجِدِ كَمُتَسَوِّلَةٍ لِفَتَاتِ خُبْزٍ، وَتَفَحَّصْتُ بِعَيْنَيَّ وُجُوهَ الزُّوَّارِ. جَلَسْتُ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَتْ عَجُوزٌ مُسِنَّةٌ تَجْلِسُ بِالقُرْبِ مِنِّي، هِيَ الأُخْرَى تَجُولُ بِنَظَرِهَا فِي قَلَقٍ بَالِغٍ. تَجَاهَلْتُهَا، وَفِي تَفْكِيرِي أَنْ بَعْضًا مِنْ رَغَبَاتِي تَنَاثَرَتْ حَوْلَهَا ظَنًّا مِنِّي.

لَبِثْتُ سَاعَةً بِذَاتِ البَلَاهَةِ أُعِيدُ النَّظَرَ، ثُمَّ نَامَتِ العَجُوزُ فِي الرُّبْعِ الأَوَّلِ مِنْهَا. اتَّكَأْتُ أَنَا عَلَى ظَهْرِي وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ بِكُلِّ هُدُوءٍ، مُسْرِعَةً مُتَشَوِّقَةً لِرُؤِيَةِ عَالَمِي الخاصِ. لَمْ أَسْتَحْضِرْ شَيْئًا مِنْهُ، وَبَدَأْتُ أَتَغَافَلُ عَنْ مَأْتَمِ أَمْنِيَاتِي. ظَفِرْتُ بِخَيْرٍ كَثِيرٍ حِينَ أَوْكَلْتُ مُهِمَّةَ الرَّفْضِ لِضَمِيرِي.

الرِّيَاحُ الَّتِي كَانَتْ تَطُوفُ حَوْلَنَا لَمْ تُحْسِنْ عِنَاقِي، وَلَمْ تَقْوَ قُبَلَاتُ الكَوْنِ عَلَى إِسْكَاتِ تَسَاؤُلَاتِي رَغْمَ عُنْفِهَا.

الأَدِيمُ… الأَدِيمُ.

الطَّعَامُ.

الكِتَابُ.

التَّفَوُّقُ.

التَّخَلُّفُ.

السُّلْطَةُ.

(تُرِيدُ شَهَادَةً لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ).

لِلْحَظَةٍ شَعَرْتُ بِعَطَشٍ شَدِيدٍ… زَمْزَمُ… أُوه زَمْزَمُ!! ضَحِكْتُ بِسَبَبِ قِصَّةٍ لِأَحَدِ الظُّرَفَاءِ حِينَ كَانَ مُتَلَهِّفًا لِشُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ، وَعِنْدَمَا ارْتَوَى تَفَاجَأَ بْوُجُودِ مَلُوحَةٍ خَفِيفَةٍ، فَصَاحَ قَائِلًا بِبَسَاطَتِهِ: “وَاللَّهِ طَعْمُهَا لَيْسَ لَذِيدًا وَلَكِنْ لَا حَدِيثَ لِي مَعَ اللَّهِ.”

انتَعَلْتُ حِذَائِي وَهَمَمْتُ بِالمُغَادَرَةِ، فَإِذَا بِالعَجُوزِ تَصِيحُ: “بِنْتِي، بِنْتِي، بِنْتِي!” تَوَجَّهْتُ نَحْوَهَا حَتَّى اقْتَرَبْتُ، فَمَدَّتْ يَدَهَا مُصَافِحَةً لِي بِابتِسَامَةٍ قَائِلَةً: “أَيْنَ بِنْتِي؟” تَفَاجَأْتُ بِقَوْلِهَا رَغْمَ السَّكِينَةِ البَائِنَةِ، وَرَغْمَ أَنَّهَا مُنْذُ جُلُوسي بِقُرْبِهَا كَانَتْ تَتَفَحَّصُ الزُّوَّارَينِ مِثْلِي مَعِ اخْتِلَافِ الأَهْدَافِ، وَذَلِكَ لَمْ يُلْفِتْ انتِبَاهِي. لَمْ أَحْسِبْ غَيْرَ أَنَّ كُلَّيْنَا فِي ضِيَاعٍ. تَفَقَّدْتُ نَفْسِي حَتَّى شَكَكْتُ أَنَّنِي ظِلُّهَا؛ ابْتَسَمْتُ لَهَا بِحُبٍّ: “سَتَعُودُ، سَتَعُودُ، انْتَظِرِي.” وَحَمَلْتُ بَعْضِي لِأَحْمِلَ احْتِمَالَاتِ الزُّوَّارِ فِي صَمْتٍ مُسْتَقِيمٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى