————————–
تَدُورُ الْعَجَلَةُ فِي سَاحَةِ الْمَدِينَةِ، حَيْثُ الرِّيَاحُ تَحْمِلُ أَنْينَ الأُمَّهَاتِ الْمَنْكُسِرَاتِ، وَتَغْفُو تَحْتَ أَنْقَاضِ الْأَحْلَامِ الْمُمَزَّقَةِ. هُنَاكَ، حَيْثُ تَنْزِفُ الْأَرْضُ مِنْ جِرَاحِهَا، يَعْلُو صَوْتُ الطَّائِرَاتِ كَالْعَوَاصِفِ، يَخْرِقُ سُكُونَ السَّمَاءِ وَيُبَعْثِرُ الْغَيْمَاتِ كَحُلْمٍ ضَائِعٍ، سَرْعَانَ مَا يَنْطَفِئُ.
كَانَ الصِّبْيَةُ يَجْمَعُونَ الذِّكْرَيَاتِ كَأَنَّهَا قِطَعٌ نُقُودِيَّةٌ، يَبْتَسِمُونَ لِلْغَدِ الْمَجْهُولِ، وَيَرْسُمُونَ أَحْلَامَهُمْ بِأَلْوَانِ قَوْسِ قُزَحٍ، لَكِنَّ فَجْأَةً، أَضْحَتِ الْأَلْوَانُ رَمَادِيَّةً، وَتَحَوَّلَتِ الِابْتِسَامَاتُ إِلَى شَظَايَا حَارِقَةٍ. ذَهَبَتْ أَقْدَامُهُمْ إِلَى الْمَدَارِسِ، لَكِنَّ الْمُدَرِّسَاتِ لَمْ يَعُدْنَ يُدَرِّسْنَ؛ فَقَدْ أَصْبَحَتْ قَاعَاتُ الدُّرُوسِ قَاعًا مُظْلِمًا، يَسْكُنُهُ طَيْفُ الْحَرْبِ وَصُرَخَاتُ الْفِراقِ.
أَحَدُهُمْ، صَدِيقُ الطُّفُولَةِ، حَلُمَ أَنْ يُصْبِحَ شَاعِرًا، يَنْسُجُ الْكَلِمَاتِ كَخُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِ، يَكْتُبُ قَصَائِدَ لِلْحُبِّ وَالْحَيَاةِ، وَلَكِنَّ حُلْمَهُ الْآنَ تَلَاشَى كَفَرَاشَةٍ مُحَاصَرَةٍ فِي زُجَاجَةٍ. يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِدَلَاً مِنَ النُّجُومِ، يَرَى الْأَجْسَامَ الْمُتَسَاقِطَةَ، الْقَنَابِلَ تَتَرَاقَصُ فِي الْفَضَاءِ كَأَنَّهَا عَرَائِسُ مَأْسَوِيَّةٌ، تَرْسُمُ فُصُولَ النِّهَايَةِ.
الْمَدِينَةُ، الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ زَفَافَ الزُّهُورِ، أَصْبَحَتِ الْآنَ مِيدَانًا لِلْخَرَابِ. أَسْفَلَتُهَا مَلَطَّخَةٌ بِأَحْلَامٍ تَلَاشَتْ، وَدُمُوعُ الْأَطْفَالِ تَتَنَاثَرُ كَحَبَّاتِ الْمَطَرِ، تَرْوِي حِكَايَاتٍ مُؤْلِمَةً عَنْ أُمَّهَاتٍ غَائِبَاتٍ وَآبَاءَ فَقَدُوا مَعَالِمَهُمْ. تَنْعَكِسُ هَذِهِ الدُّمُوعُ فِي عُيُونِ الْجِيلِ الْجَدِيدِ، جِيلٍ لَمْ يَعْرِفْ سُوَى عَوِيلِ الْحُزْنِ.
فِي ظِلِّ الْأَشْجَارِ الْمَيِّتَةِ، كَانَتِ الْقُلُوبُ تَحْتَرِقُ كَمَا لَوْ كَانَتْ تَتَوَقَّدُ فِي النَّارِ، تَنَادِي الأَقْدَارَ: “أَيْنَ الْحُلْمُ؟” فَتَأْتِي الرِّيَاحُ حَامِلَةً صَدَى الْأَسْئِلَةِ، تَسْخَرُ مِنَ الأَجْوِبَةِ، تَتَلاشى كَأَوْرَاقِ الْخَرِيفِ، تَارِكَةً خَلْفَهَا هَالَةً مِنَ الصَّمْتِ الْمُرْعِبِ.
ثُمَّ جَاءَتْ لَيْلَةُ الظَّلَامِ، حَيْثُ ارْتَفَعَ الأَنِينُ، وَاخْتَلَطَتِ الْأَصْوَاتُ، فَأَصْبَحَتْ أُغْنِيَةَ الْمَوْتِ وَالدُّمَارِ. رَقَصَتِ الشَّمُوعُ فِي النَّافِذَاتِ الْمُنْكَسِرَةِ، تَحَاوِلُ مُقَاوَمَةَ الْعَتْمَةِ، لَكِنَّ النِّيرَانَ فِي السَّمَاءِ كَانَتْ تَرْقُصُ أَيْضًا، بِلِقَائِهَا الْمَأْسَوِيِّ مَعَ الْجُرُوحِ الْمَفْتُوحَةِ.
أَطْفَالٌ يُسْرَقُ مِنْهُمْ الْفَرَحُ، وَقُلُوبٌ تُدَاسُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأَهْوَالِ، تَصْرُخُ: “أَيْنَ السِّنْدُ؟ أَيْنَ الأَمَانُ؟” لَكِنَّ الْأَرْضَ لَا تُجِيبُ، بَلْ تَكْمَلُ صَمْتَهَا، رَاضِيَةً بِدُمُوعِهِمْ كَالأُمِّ الَّتِي فَقَدَتْ وَلِيدَهَا.
تَتَدَفَّقُ الذِّكْرَيَاتُ كَالنَّهْرِ، تَعْكِسُ صُوَرًا مُشَوَّشَةً مِنَ الْفَرَحِ وَالْأَسَى، وَلَكِنَّ فِي قَلْبِ الْحُطَامِ، يَبْقَى الأَمَلُ مُعَلَّقًا كَنجْمَةٍ فِي السَّمَاءِ، يُرَاوِدُ الْعُقُولَ، وَيَدْعُو إِلَى النُّورِ. فَهَلْ سَنَسْتَطِيعُ إِعَادَةَ بِنَاءِ مَا تَحَطَّمَ، أَمْ سَنَبْقَى أَسْرَى الذِّكْرَى، نَتَلَمَّسُ الطَّرِيقَ وَسْطَ الْعَتْمَةِ؟