من الإشكاليات التي أثارَتْها نظرية داروين،وما تَبِعها من حفريات، تلك المتعلقة بالتصادُم الصريح والواضح بين نصوص الدين، العَبْراني في المقام الأول، التي تقول إن آدم، الموجود على الأرض منذ بضعة آلاف من السنين، هو أوَّل إنسان، وبين العلم الذي يناهض ذلك؛ فالحفريات أثبتَت أن عمر الإنسان على ظهر الكوكب يعود إلى ملايين السنين، وليس آلاف السنين فحسب. وللتعرف إلى بدء الوجود البشري، ابتداءً من الصورة الحيوانية وصولًا إلى الصورة الإنسانية، لدينا ثلاثة مصادر أساسية هي الكتب المقدسة، وكتب التراث، والأبحاث العلمية.
وبالنسبة للكتب المقدسة؛ فلدينا سِفر «التكوين» وهو أول أسفار التوراة الخمسة، ويُقسم هذا السفر منهجيًّا إلى قسمَين كبيرَين؛ أولهما: ينشغل بذكر موضوع الخلق، ويتناول بالسرد المرحلة من آدم إلى نوح، وما تحتويه هذه المرحلة من مجريات الأمور في جنة عدن بين آدم وحواء والشيطان، ثم ذكر قتل قايين لهابيل، ثم ينتقل السرد إلى ذكر الفترة من نوح إلى إبراهيم وما تحتويه هذه الفترة من أحداث تبدأ بالطوفان وتنتهي ببرج بابل الذي هدمه الرب بعد أن تغطرس البشر وأرادوا الوصول إلى آلهة السماء! أما القسم الثاني: فينشغل بتاريخ الآباء، ويحتوي على تاريخ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف. وحينما يموت يوسف يترك إخوته وأهله في أرض مصر التي ستذيقهم العبودية، وسيكون تحريرهم وإعادتهم إلى «أرض الآباء» موضوع السفر التالي أي سفر «الخروج».
أما القرآن فهو يذكر ثلاث مراحل: مرحلة خلق آدم، الذي كان محل تحفُّظ من الملائكة (البقرة: 30-35) ثم مرحلة الخروج من الجنة، إثر مخالفة الأمر الإلهي (البقرة: 36)، وأخيرًا بدء الصراع، بقتل قابيل لهابيل (المائدة: 27-31).
وبالنسبة لكتب التراث، المستقَى أغلبها من مرويات معتمدة على الكتب المقدسة، فمن أبرزها: «الكامل» لابن الأثير، و«تاريخ الرسل والملوك» للطبري، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«الشهنامة» للفردوسي، و«مروج الذهب» للمسعودي … إلخ.
ولعل الإشكالية التي أثارتها الحَفْريات هي مدى تعارُض العلم مع الروايات التي وردت في الكتب المقدسة عن الخَلْق؛ فالكتب المقدسة، ومعها التراث بالتبع، تُرجِع الخلق إلى بضعة آلاف من السنين، بيد أن الحفريات تُثبِت أن الإنسان الأول، أسلافنا، على الأرض منذ ملايين السنين.
ونحن من جانبنا نرى أن رفع التعارض يبدأ من إعادة فهم النص القرآني لا التوراتي؛ فالقرآن يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ*وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ*وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. والمفهوم من النص أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان (بصيغة الماضي)، ولكنه سيخلق بَشَرًا (بصيغة المضارع التي تفيد الاستقبال)، والبَشر هنا جمع (الواحد والجمع والمذكر والمؤنث فيه سواء. «المعجم الوسيط»).
وربما تعني أن البشر أرقى من الإنسان. وبالتالي يصبح آدم، كبشري، أرقى من الإنسان السابق عليه، بصفةٍ خاصة وأن كلمة الإنسان في القرآن دومًا تأتي مقرونة بالذم. والبشر، كما يقول أبو هلال العسكري، يقتضي حسن الهيئة؛ وذلك أنه مشتق من البشارة، وهي حُسنُ الهيئة؛ يقال: رجلٌ بشير، وامرأةٌ بشيرة إذا كان حَسَن الهيئة؛ فسُمِّي الناس بَشرًا لأنهم أحسن الحيوان هيئة. ويجوز أن نقول من البَشَرة وهي ظاهر الجلد، وقالوا عبَّر عن الإنسان بالبَشَر لأن جلده ظاهرٌ بخلاف كثيرٍ من المخلوقات التي يغطيها وبرٌ أو شعر أو صوف؛ فسُمِّي بَشَرًا باعتبار ظهور بشرته. ويجوز أن يُقال: إن قولنا بشر يقتضي الظهور، وسُموا بشرًا لظهور شأنهم. كما أن كلمة إنسان مناسبة للمراحل الأولى حيثُ الإنسان في أمسِّ الحاجة إلى المؤانسة في ظل قوى الطبيعة الغامضة والأخطار الدائمة.
أما قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فيشير إلى انتقال الإنسان إلى مرحلة تلقي التكليف. والملائكة كانت تُعايِن حياة «الإنسان» الأُولى وتراه مفسدًا ولذا تساءلتُ هل سيكون هذا الكائن (المخلوق الجديد) وبمثل تلك الأوصاف محلًّا للتكليف؟ ومن هنا يمكن فهم النص التوراتي، فحينما خلق الله آدم في اليوم، أو المليون، السادس، لم يكن «الإنسان» الأول، بل كان أول «البشر»، أول التطور نحو الأرقى بيولوجيًّا.
والمؤمنون، وأنا منهم، لا يرون أي مشكلة في التدخل الإلهي بالخلق الاستثنائي لآدم؛ إعلانًا عن بدء مرحلةٍ ثانية من التطور.