إقتصادمال و أعمال

محمد عادل زكي: دور الزَّمن في تكوين القيمة (الجزءٌ الأول)

سودان ستار

 

 

في الطبعة السَّادسة من كتابي”نقد الاقتصاد السّياسي”، عالجتٌ قانون القيمة وبينتُ أن الاقتصاد السّياسي عَبْر تاريخه، يقيس القيمة، الَّتي هي محل انشغاله الأصيل، بمقياسٍ غير صحيح عِلميًّا، وبالتَّالي ابتعد، كعِلم، عن هدفِه في الكشف عن القوانين الموضوعيَّة الحاكمة لظاهرَتي الإنتاج والتَّوزيع على الصعيد الاجتماعيّ؛ فانتهى بالتبع إلى نظرية في ثمن السُّوق، وليس في القيمة.

 

وكان بُرهاني هو أن القيمة هي خصيصة من خصائص الشيء، صفة، تميّزه وتحدّده. وهي على هذا النحو مثل الوزن والطول والحجم والارتفاع،… إلخ. فإذا كان للشيء ثقلٌ ما قلنا أن للشيء وزنًا. ذو وزن. وإذا كان للشيء بُعدٌ ما بين طرفَيه قلنا أن للشيء طولًا، ذو طول. وإذا كان الشيء يشغل حيزًا ما؛ قلنا أن للشيء حجمًا، ذو حجم. وإذا كان للشيء طولٌ عمودي من قاعدته إلى رأسه؛ قلنا أن للشيء ارتفاعًا، ذو ارتفاع.

 

والأمر نفسه بالنسبة للقيمة؛ فالشيء/ المنتوج الَّذي يكون نتيجة العمل (أيًّا ما كان: حُر، مُستَعبَد، مُسخَّر، تعاقدي)، ومن ثم يحتوي على قدرٍ أو آخر من ذلك المجهود الإنساني والَّذي يتجسد في هذا المنتوج، يُصبح له قيمة، ذو قيمة. والقيمة على هذا النحو لا تعتمد في وجودها على قياسها أو تقديرها؛ إذ لا يصح في العقل أن نقول أن الشيء بلا قيمة لأننا لا نعرف بعد قدر المجهود الإنساني المبذول في إنتاجه. ذلك لأن القيمة، كخصيصة، تثبت للشيء بمجرد أن داخله هذا القدر أو ذاك من المجهود الإنساني، ولا يكون قياس القيمة، أو تقديرها بكمية من شيء آخر، إلا في مرحلة تالية لثبوت القيمة ذاتها. تمامًا كما أن قياس الطول لا يكون إلا تابعًا لثبوت خصيصة البُعد بين طرفَي الشيء.

 

والاقتصاد السّياسي حينما يقول، على سبيل المثال، أن القلم قيمته 40 دقيقة فإنما يعني أن المجهود الإنساني المتجسّد في القلم قيمته 40 دقيقة.P (سميث، ثروة الأمم، الكتاب الأول، الفصل السادس. ريكاردو، المبادىء، الفصل السادس، القسم الأول. ماركس، رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الأول) بيد أن هذا المذهب في قياس القيمة وما يترتب عليه، إنما يتصادم مع أصول عِلم القياس، بل ويتعارض مع مفهوم القيمة ذاتها؛ إذ لا يصح علميًّا القول بأن المجهود الإنساني المبذول في سبيل إنتاج الشيء يساوي (ك) من الدقائق أو (ع) من السَّاعات. وإن جاز القول بأن المجهود الإنساني المبذول في سبيل إنتاج الشيء تم خلال (ك) أو (ع) من الدقائق أو السَّاعات. بل وحتّى حينما نقول أن المجهود الإنساني بُذل خلال (ك) من الدقائق أو تم خلال (ع) من السَّاعات، فلا يعني ذلك أبدًا أننا قمنا بقياس هذا المجهود الإنساني؛ بل على العكس، ذلك يعني أننا عرفنا فحسب الوقت الَّذي أنفق (خلاله) هذا المجهود دون أن نعرف قدر ذاك المجهود. عَرفنا الزَّمن الَّذي تكونت (خلاله) القيمة، ولكن، لم نعرف مقدار القيمة نفسها! ولأن الاقتصاد السّياسي يمضي مجافيًا العِلم حينما يؤكد، كمسلَّمة، عَبْر مئتي عامًا أن قيمة السلعة تُقاس بالوقت المنفَق في سبيل إنتاجها؛ فإنه بتلك المثابة يستخدم مِقياسًا غير صحيح لقياس القيمة؛ لأنه يقيس الجهد الإنساني المتجسّد في المنتوج باستعمال وحدة قياس الوقت! وكأنه، وكما ذكرت في كتابي، يحاول قياس الطول بالريختر، أو قياس الارتفاع بالجالون الإنجليزي!

google.com, pub-1840596202921895, DIRECT, f08c47fec0942fa0

 

وعليه، قمت بمراجعة مئتي عامًا من تاريخ علم الاقتصاد السّياسي؛ كي انتهي إلى تصحيح مقياس ووحدة قياس القيمة؛ مُقدّمًا، كفرضيَّة منهجيَّة، وحدة القياس الصحيحة ممثلة في السُّعر الحراري الضَّروري (س. ح. ض)، وبالتالي تمكنتُ من إعادة تقديم قانون القيمة على نحوٍ باستطاعته مُعالجة جميع المشكلات الموضوعيَّة والمنهجيَّة الَّتي واجهت الآباء المؤسّسين للعلم، وفي مقدمة تلك المشكلات قياس القيمة في حقل الخدمات، والأهم أن حل هذه المشكلات جرى دون الاستعانة بالسُّوق والإحالة إليه كما فعل الآباء المؤسّسون فخرجوا بالاقتصاد السّياسي من حقل العِلم إلى دوائر التجريب والابتذال وفتحوا الباب على مصراعيه أمام سيلٍ جارف من التُّرهات والأباطيل الَّتي تسرَّبت إلى العِلم الاقتصاديّ فأفرغته من محتواه الاجتماعي وجرَّدته من مضمونه الإنساني!

 

وبعد أن قدَّمت فرضيتي بشأن تصحيح مقياس القيمة، ووحدة قياسها بالتَّالي؛ انتقلتُ لدراسة الدّور الَّذي يؤدّيه الزَّمن في تكوين تلك القيمة على الصعيد الاجتماعيّ. ولأن الاقتصاد السّياسي دأب على دراسة الظواهر محل انشغاله بمعزل عن حركة الزَّمن –  باستثناء بعض الشك الَّذي أبداه ريكاردو، قبل كتابة الطبعة الثَّالثة من كتابه “المبادىء”، في رسالته إلى ماك كولوخ والَّتي أعرب له فيها عن رغبته في إعادة تحليل القيمة على أساس إدخال الزَّمن النسبي الَّذي تستغرقه السلعة قبل طرحها في السُّوق. وباستثناء، كذلك، محاولة ماركس الَّتي ركنت إلى قدرة تساوي مُعدَّلات الأرباح في القطاعات على تسوية أمر التغيُّر في الزمن–  فقد كان من المتعيَّن أن أبدأ من هذا الشك الريكاردي واتتعبه إلى مُنتهاه، وأن أخذ في اعتباري محاولة ماركس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى