قراءات

بدر موسى: قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (1- 6)

سودان ستار

قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (1- 6)


بروفيسور اماراتيا سن


تأليف عبد الله الفكي البشير- الناشر ط1: مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، الموزع: دار الأجنحة للنشر والتوزيع، الخرطوم.. ناشر الطبعة الثانية: دار بدوي للنشر، كونستانس، ألمانيا، 2022

 

 

ماجستير برامج دعم التنمية في دول العالم الثالث (2000)، جامعة أيوا، الولايات المتحدة

يدرس حالياً في ماجستير التدريس والتعليم، جامعة أيوا، الولايات المتحدة

bederelddin@yahoo.com


 

 

“والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة”.

محمود محمد طه، 1972

 

 

المحاور

 

مدخل- كتاب يخاطب راهن السودان والعالم- البروفيسور علي عبد القادر: “هذا كتاب مذهل”- كلما زاد العبد في التخضع لله كلما زادت حريته- خدمة الثورة والتغيير تكون بالفكر والعلم- تعريف مختصر بالكتاب: هيكل الكتاب- العبودية هي غاية الحرية- الحرية غاية التنمية وهدفها الأسمى ووسيلتها الأساسية- الإسلام وهزيمة الخوف- عن ماهية التعليم ومادته وفائدته ووظيفته- الفهم الجديد للإسلام: مستوى ما بعد العقيدة حيث يبدأ العلم- “الحرية هي روح الحياة.. فحياة بلا حرية إنما هي جسد بلا روح”- التحرير من الخوف هو الطريق لاستئصال العبودية (الرق)- الدين بمستواه العقيدي يعوق التنمية: الشريعة الإسلامية تعوق التنمية- إنجاب الفرد الحر مِسبر التنمية- حاجة الدولة لإعادة تقييم إنتاج المرأة في البيت وإدخاله ضمن تقييمها الاقتصادي- مستقبل النظامين الشيوعي والرأسمالي- المحتفون بالكتاب- ربما لا نكون مختلفين إلى هذا الحد- بيان الغرض من التنمية وهو إنتاج أفراد أحرار- الحرية موؤدة في النظامين الرأسمالي والشيوعي- نحو ثورة في الأخلاق- هل هذا مجرد نموذج للقاء العقول الكبيرة والتطابق في الأفكار والآراء أم نموذج لسرقة الأدبية؟- نماذج من تشابه النصوص والآراء- خاتمة.

مدخل

 

في البدء لا بد لي أن أعترف بأن الذي حفزني لكتابة هذه القراءة، التي تأخرت كثيراً بعد نشر طرف يسير منها، لكتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير الرائع، كما سيرد التفصل، والمهم غاية الأهمية، هو اطلاعي مؤخراً على سلسلة المقالات المتميزة التي كتبتها أختي القديرة الأستاذة سمية أمين صديق ونشرتها تحت عنوان: “قراءة في كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان”، والتي أثارت اهتماماً كبيراً وردود فعل قوية من المثقفين، وإعجاب كبير بالمقالات وبالكتاب العظيم، وكلاهما، يستحقان ما حظيا به من إشادة، وتقدير، لجملة أسباب، ربما يكون أهمها هو أهمية تناول قضايا التهميش في السودان، وعلاقتها بما نحن فيه وما تعيشه بلادنا وما تعانيه من هذه القضايا والتحديات التي رمتنا في هذه الدوامة، وتسببت في جل الأزمات التي تكالبت علينا وكادت أن تؤدي بنا إلى التهلكة. فهذا الكتاب الذي تناولته سمية كتاب موسوعي سبر أغوار قضايا شائكة وملحة، وبيَّن سبيل التعافي منها انطلاقاً من رؤية الأستاذ محمود، وفصَّل سبل علاجها الناجع، ولم يترك جانباً مهماً فيها يحتاج إلى مزيد مما يجب أن يفصل ويقال.

 

كتاب يخاطب راهن السودان والعالم

 

ولكل ما تقدم، فإن مقالات سمية المسددة وغير المسبوقة، قد نبهتني إلى ضرورة كتابة قراءة أخرى لكتاب عبدالله الآخر، وهو كتاب جديد في بابه، ومتفرد في موضوعه، وأصيل في فكرته، حيث قدم مقارنة بين منجز علمي يستند على العلم المادي التجريبي، ورؤية علمية تقوم على العلم المادي الروحي/ الديني، وتدعو للمزج بين العلمين المادي والروحي. جاء الكتاب بعنوان: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية، التنمية حرية – محمود محمد طه وأمارتيا سن (مقاربة)، وهو كتاب يخاطب راهن السودان وأفريقيا والعالم، ولا يقل أهمية عن كتاب قضايا التهميش، بل كلاهما مطلب الراهن السوداني والإنساني. وتزداد أهمية الكتابين في السودان مع إلحاح الأزمة السودانية، وكبر حجم المعضلة التي ظلت أيضاً تعوق مسيرتنا بل (كادت أن تؤدي بنا إلى التهلكة). ومما لا شكّ فيه أن المشغول بالقضيتين: قضية التهميش والتنمية، لابد أن يدرك أنهما ترتبطان ببعضهما وتتشابكان، ولا سبيل لبلادنا لتجاوز محنتها والنهوض من كبوتها بغير حلّهما حلاً جذرياً كاملاً ودائماً، بالتنمية الشاملة والمستدامة.

ولكل ما سبق، فقد شرعت في كتابة هذه القراءة لكتاب: التنمية حرية، وأنا أنوي السير في نفس الاتجاه الذي ابتدرته سمية، وأتعشم أن أوفق كما وفقت أختي في التنبيه لأهمية كتاب قضايا التهميش، ومثلما نجحت في لفت الأنظار وإثارة الاهتمام حوله.. ولهذا فإنني أقدم قراءتي هذه لكتاب التنمية حرية، إسهاماً مني في استمرار الحوار وحتى تكتمل الصورة، ويكتمل تشخيص القضيتين، الملحتين، وتفصيل حلولهما، انطلاقاً من رؤية الأستاذ محمود محمد طه، التي طرحها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي!

لقد صدر الكتاب موضوع حديثنا، في طبعته العربية الأولى في أكتوبر 2021، ثم جاءت الطبعة الثانية عن دار بدوي للنشر، كونستانس، ألمانيا، في يونيو، 2022، وصدرت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عن مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، في أغسطس 2022. وقد أقيمت بعض الندوات لتدشين الطبعة العربية الأولى من الكتاب، كانت الندوة الأولى قد نظمها الحزب الجمهوري بمركزه بأم درمان، في مساء الجمعة 15 أكتوبر 2021. كما أقام مركز دراسات وأبحاث القرن الأفريقي ندوة بالتعاون مع دار الأجنحة للطباعة والنشر والتوزيع، بقاعة الشارقة، جامعة الخرطوم، الثلاثاء 19 أكتوبر 2021. ونظم مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، ندوة بالخرطوم، يوم السبت 23 أكتوبر 2021. وكان البروفسير الهمام/ محمد طه يوسف الأمين، مدير جامعة الجزيرة، حريصاً على تنظيم ندوة حول الكتاب بجامعة الجزيرة، وذلك في إطار مشروع سلسلة ندوات قضايا التنمية والانتقال الديمقراطي في البلاد، الذي تتبناه الجامعة، وبالفعل تم الترتيب والإعلان عن الندوة لتكون يوم الاثنين 25 أكتوبر 2021، برئاسة مدير الجامعة، بقاعة الشهداء بالمدينة الجامعية بالنشيشيبة، مدني، فوقع الانقلاب المشؤوم في صبيحة نفس اليوم. تبع ذلك أن تم إلغاء ندوة أخرى عن الكتاب كانت ستكون بنادي الخريجين، مدينة ود مدني.

كذلك أجرى الأستاذ السر السيد لقاءً إذاعياً مع الدكتور عبد الله الفكي البشير حول الكتاب، إلى جانب قضايا أخرى تخاطب إرث وراهن ومستقبل السودان، وذلك ضمن برنامج سواسية، بإذاعة بلادي، بتاريخ 16 أكتوبر 2022. كذلك أجرى الأستاذ غسان علي عثمان، لقاءً تلفزيونياً ضمن برنامج الوراق، بقناة سودانية 24، يناير 2022.

تمدد الاحتفاء بالكتاب على المستوى الكوكبي، كما هي فكرته وطبيعته ومادته، فنظم قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة بغداد بالتعاون مع مركز ابن سيناء بجامعة بغداد والمَجمَع الفلسفي العربي، العراق، ندوة كانت بعنوان: أطروحات التنمية الإنسانية في ضوء العلمين المادي والروحي، وذلك بتاريخ 30 سبتمبر 2022. كذلك أقام الملتقى العربي للفكر والحوار، بمدينة برلين، ألمانيا، ندوة في 25 أبريل 2023. وأيضا أجرى الدكتور فريد العليبي لقاءً تلفزيونياً مع الدكتور عبد الله الفكي البشير ضمن برنامج فضاء الحرية، بقناة الوطنية الأولى التونسية، تناول اللقاء طرفاً من الكتاب، وذلك يوم 24 يوليو 2023. هذا إلى جانب أن هناك دعوات لتنظيم ندوات عن الكتاب جاءت للمؤلف من باكستان، والمكسيك، والأردن، والجزائر، وغيرها.

 

البروفيسور علي عبد القادر: “هذا كتاب مذهل”

وطلب البروفيسور علي عبد القادر، قائلاً: “أرى أن ينشر هذا الكتاب في السودان، حتى يستفيد منه الناس وحتى يستفيد منه الشباب والحاكمين، وآمل أن تقام حوله حوارات ونقاش”.

 

قدم الكتاب مقارنة بين أفكار الأستاذ محمود محمد طه وآرائه تجاه التنمية مع أفكار المتخصصين وآرائهم، فمثَّل نموذجاً فريداً لهذه المقارنة، التي أبرزت و”تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة”. قارن الكتاب بين أطروحة: التنمية حرية، التي قدمها عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا كومار سن، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة، حالياً، بجامعة هارفارد، والتي جاءت ضمن كتاب له نُشر عام 1999، وبيَّن طرح الأستاذ محمود محمد طه ورؤيته تجاه التنمية، والتي كانت سابقة، وقد قدمها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، ومثلَّت محوراً أساسياً في مشروعه الفكري: الفهم الجديد للإسلام/ الفكرة الجمهوري/ الفكرة الجمهورية، وجاءت في العديد من كتبه ومقالاته وأحاديثه، كما قام بتفصيل كل ذلك الدكتور عبد الله في كتابه المتميز والعجيب والمدهش.

وتزداد قيمة مقاربة الدكتور عبد الله الفكي البشير، في أنها أظهرت المرجعية الفكرية لرؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). قدم الأستاذ محمود من خلال الفهم الجديد للإسلام، وجهاً مشرقاً للإسلام، في الوقت الذي يواجه فيه الإسلام والمسلمين التهم بالعجز والقصور والتخلف والتطرف ومحاربة التقدم والفهم باسم الله. وهذه التهم تجد سندها وتعزيزها في أخذ الإسلام عن جهل، يقول الأستاذ محمود: “إن الإسلامَ سلاحٌ ذو حدين.. إذا أُخذ عن علمٍ ومعرفة رفع الناس إلى أوج الرفعة والإنسانية والرقي، وإذا أُخذ عن جهلٍ، ارتد بالناس إلى صورٍ من التخلفِ البشع، الذي يحارب باسم الله كل مظهرٍ من مظاهر التقدم والفهم”. ولقد أوضح عبد الله في كتابه أن رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية تنطلق من دعوته لإرجاع الحياة إلى الله، وأن منشأ العلوم في حاجة ماسة وضرورية للمزج بين العلم التجريبي المادي مع العلم التجريبي الروحي، نسبة لوحدة الوجود، وأن تعريف التعليم هو تمليك الحي للقدرة، أي القدرة على تكيف الإنسان مع البيئة، وأن عناصر البيئة هي المعلم المباشر، بينما المعلم الأصلي هو الله، وأن الحرية هي العبودية لله، وأن سبب أزمة الأخلاق في العالم يتصل بالتخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية، وقد فصل عبدالله في كتابه كل ذلك تفصيلاً دقيقاً ومسدداً، فقد كتب عبد الله، قائلاً: “أرجع طه أزمة الأخلاق، التي أدت الى الاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية”. وأضاف عبدالله، قائلاً: يرى الأستاذ محمود بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى الأستاذ محمود، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا، كما يقول عبدالله مستشهداً بقول الأستاذ محمود: فإنه على الإنسان “أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله”.

عرض عبدالله كتابه على البروفيسور علي عبد القادر (1944- 2022)، أستاذ اقتصاديات التنمية، والخبير السوداني المعروف، الذي عمل قائداً لبعض المؤسسات وفرق العمل التنموية، إقليمياً وعالمياً، وذلك باقتراح من البروفيسور عصام البوشي. أطلع البروفيسور علي عبد القادر على الكتاب، وناقش كل فصوله ومحاوره مع عبدالله، فعبَّر عن اعجابه بالكتاب، وبما جاء فيه من مقارنة علمية، وبما اشتمل عليه من رؤية للأستاذ محمود تجاه التنمية. ثم وصف الكتاب، قائلاً: “هذا كتاب مذهل”. تبع ذلك أن حكى البروفيسور علي عبد القادر لعبدالله، قائلاً: “لقد تحدثت مع بعض الأصدقاء عن الكتاب، الذي تضمن رؤية محمود محمد طه تجاه التنمية، فعبَّر أحدهم عن دهشته عن معرفة محمود محمد طه بالتنمية، فرددت عليه، قائلاً: إذا كان كل دارس يمكن أن يعرف تنمية، هل من المعقول أن يكون محمود محمد طه لا يعرف تنمية”. وأضاف البروفسور علي عبد القادر، قائلاً: “محمود محمد طه يعرف بدقة وعمق وشمول، بينما نحن الذين لا نعرف”. كذلك كان البروفيسور علي عبد القادر حريصاً على أن ينشر الكتاب داخل السودان، وليس خارجه، حيث تحدث إلى عبد الله، قائلاً: “أرى أن ينشر هذا الكتاب في السودان، حتى يستفيد منه الناس وحتى يستفيد منه الشباب والحاكمين، وآمل أن تقام حوله حوارات ونقاش”. واستجاب عبد الله من جانبه، لطلب البروفيسور علي عبد القادر، على الرغم من المعروض المقدمة لنشر الكتاب خارج السودان”.

 

كلما زاد العبد في التخضع لله كلما زادت حريته

 

يقول عبد الله إن العبودية لله، كما هي عند الأستاذ محمود، “هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته”. وذكر عبد الله بأن الأستاذ محمود يقول: “بالعلم التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية”. وأضاف عبد الله بأن الفكر، كما يرى الأستاذ محمود، “أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي”. ولهذا، كما أورد عبد الله، يقول الأستاذ محمود: “إن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هذا الكوكب بالعجز، والقصور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر”.

 

محمود محمد طه


نواصل في الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى