مع التطوُّر في واقع النشاط الاقتِصاديّ، واتساع دائرة التبادل، تأخذ في التطور، كذلك، الأفكار المحددة لنشاط التجارة في النقود. فتنشأ المؤسَّسات المصرفية وتنظم الإجراءات وتسن القوانين، الَّتي تهدف في مجملها إلى تنظيم نشاط من أخطر الأنشطة الاقتصَادية، والأكثر تأثيرًا في واقع الحياة الاجتماعيَّة. هذا التطور استتبع التطوُّر الضروريّ في النظرة إلى تلك المؤسسات ذات السمعة التاريخيَّة السيئة! فلم تعد على الأقل في الظاهر، من الضَّواري الَّتي تفتك بفريستها، حينما تعجز، وستعجز كثيرًا، عن السداد، بل أمست مؤسسات قومية ذات أدوار وطنية! وأصبحت كيانات عملاقة بإمكانها تحريك الاقتصَاد حينما يكف عن السير! وبالتَّالي تغيرت النظرة إلى طبيعة الْعائد الَّذي تحصل عليه من وراء نشاطها. تغيرت تلك النظرة في العلم الاقتصَاديّ ذي المركزية الأوروبيَّة بعد القطيعة المعرفيَّة بين الظواهر الاجتماعيَّة والتفسيرات الكنسية، في حين ظلت نفس النظرة في الفكر الإسلاميّ راسخة، مع تعرضها، تحت تأثير الفكر الأوروبيّ، للضغط المستمر في سبيل مغادرتها أو تحييدها. بيد أن التأسيس لنظرية الربا في فقه الشريعة من القرن السَّادس حتى القرن العاشر جعل النظرية عصية على الهدم؛ بصفة خاصة وأنها (كقرض بمقابل) تقوم في الفكر الإسلامي على مفهوم مختلف عن المفهوم الَّذي يتبناه العلم الاقتصادي، ذي المركزية الأوروبية، وابتداءً من هذا المفهوم المختلف ستكون أكثر اتساعًا تلك العملية التي يخضعها الفقه للمناقشة من تلك التي ينشغل بها العلم الاقتصادي. فالربا، في الشريعة، يقوم على ظاهرة “الزيادة” في الشيء. قال الطبري: “أربْى فلان على فلان، إذا زاد عليه… والزيادة هي الربا”. (الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج6، ص7). وبالتالي اتسعت دائرة المناقشة الفقهية لتشمل جميع صور الزيادة (الَّتي تؤدي إلى أي خلل في المراكز أو العلاقات التعاقدية المتكافئة في مجتمع تسوده ظاهرة التبادل) فمفهوم الربا يشمل: الربا الَّذي شاع قبل الإسلام، بأن يبايع أحدهم الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل. (الماتريدي، تفسير الماتريدي، ج2، ص476). كما يشمل الْوفاء قبل الأجل بشرط دفع قيمة أقل. (الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص566). أو البيع بثمنين المؤجَّل منه أعلى من الحال، كأن يبيع سلعةً بعشرةٍ نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجلٍ. (الأبهري، شرح المختصر الكبير، ج2، ص244). كما يشمل أيضًا التفاضل في الجنس الواحد من الْمَكيل والموزون. بل وحتى بيع الثمار دون أن تطيب، وبيع الطعام قبل قبضه، والنقصان في الكيل والميزان كذلك أدخله فقه الشريعة في دائرة الربا. (الماتريدي، ج6، ص167. اللخمي، التبصرة، ج6، ص2767). فالربا، كما فهمه رجال الشريعة ونفهمه نحن، هو كل ما من شأنه أخذ مال الإنسان من غير عوض، في علاقة تعاقدية تشوبها أحد عيوب الإرادة المجردة، بصفة خاصة الاستغلال والإكراه، وبالأخص: الإكراه المعنوي. (قارب: الرازي، حلية الفقهاء، ص125) ولتلك المساحة الشاسعة التي تقع في دائرتها المعاملات المالية الربوية، لم تقرر الشريعة عقوبة مادية دنيوية، كالتي فرضت للقتل والسرقة والزنا. وبالتالي، وعلى الرغم من أن النبي مات قبل أن يبين لصحابته آيات الربا التي قال عمر أنها آخر ما نزل من القرآن! (الطبري، جامع البيان، نفسه، ج5، ص66) كان من الضروري إحاطة تلك العملية بأقصى درجات الترهيب؛ إذ جرى النهي عن أكل الربا، وعن الشهادة على الربا، وعن كتابة الربا، وعن إطعام الربا… فهؤلاء كلهم قد تعاونوا على هذا الإثم والعدوان، وكل قد أخذ بحظه من الحرام. (الترمذي، المنهيات، ص141. الدارقطني، العلل، ج5، ص171) ويصل الترهيب والوعيد ذروتهما بتكفير آكل الربا، وإخراجه من الملة. (الزجاج، معاني القرآن وإعرابه، ج1، ص359. الطبراني، المعجم الكبير، ج18، ص60) وإمعانًا في الترهيب، جرى اختلاق الأحاديث، فهو:”… سبعون بابًا، أدناها كالَّذي يقع على أمه”! (السيوطي، الجامع الكبير، ج3، ص734. السفاريني، غذاء الألباب، ج1، ص103). ذكر صاحب تذكرة الموضوعات أن فيه كذاب ومتروك. (الفتني، تذكرة الموضوعات، ص139). ولم يقتصر الأمر على هذا الترهيب، بل التنبؤ كذلك بشيوع هذا الإثم العظيم، حينما يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكل منه يصيبه من غباره. (السمرقندي، تنبيه الغافلين، ص365). وقد ترتب على الارتباط بمفهوم الزيادة على هذا النحو، ست نتائج جوهرية: أولًا: الرضا بالربا، بين المتعاقدين، لا يبيحه، لتعلق المعاملة بأسرها بالنظام العام في الشريعة، الَّذي لم يتح للأفراد مساحة للاتفاق على مخالفتها فمجرد توافر أحد الأشكال المجردة لعيوب الإرادة يوجب بطلان التعاقد. ثانيًا: معرفة معدَّل الربح السائد الاجتماعي، الَّذي هو في نهاية المطاف محض متوسط (لا يجيز) تحديد الفائدة على أساس منه. فالحكم الشرعي قطعي الثبوت والدلالة؛ ولا سبيل للانحراف عنه. ثالثًا: النهي عن”الزيادة” القائمة على العيب المجرد من عيوب الإرادة، وبالتالي الإخلال بالتكافؤ في العقود يستصحب، بمفهوم الموافقة، النهي عن النقصان المفضي إلى العدوان على الذمة المالية لأحد المتعاقدين لصالح المتعاقد الآخر. رابعًا: في الوقت الَّذي رفض فيه الفقه الإخلال بالتوازن في العقود المالية بتحديد القدر المعلوم من الربح سلفًا، تم تقديم نظرية بديلة قائمة على توزيع الربح بين رب المال والمضارب وفق جزء معلوم النسبة، لا الْقَدْر. (البغدادي، مجمع الضمانات، ص 303. الزيلعي، تبيين الحقائق، وحاشية الشلبي، ج5، ص52-54). فالأصل في الشريعة إذًا تحديد نسبة من الربح، في حال تحققه، لا قيمة محددة مسبقًا، تجب دائمًا حتى في حال عدم تحقق الربح؛ وهو ما يخل بالعلاقات التعاقدية المفترض توازنها. خامسًا: لم يعد مهمًا الانشغال بالبحث في القانون الموضوعي الحاكم لمعدَّل الفائدة، لسبب يضاف إلى قاعدة عدم انشغال الفقه، بالأساس، إلا بالحكم الشرعي، وليس القانون الموضوعي للظاهرة، هذا السبب هو تحريم الربا بالأساس؛ فلا محفز إذًا للبحث عن قواعد تحديده. سادسًا: كانت السَّاحة خالية تمامًا أما غير المسلمين للاشتغال بأعمال الصرف والربا، بخاصَّة من اليهود (حرمت شريعتهم الربا بين اليهود فقط، وليس في علاقاتهم مع غيرهم من غير اليهود)، واستفادوا جيدًا من خبراتهم المتراكمة عبر مئات السنين في تلك الأعمال (التي نبذها المسلمون على الأقل في القرون الأولى قبل إدماج اقتصاداتهم في النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، كأجزاء تابعة!). وبالتالي تمكنوا، أي اليهود، من التحكم تدريجيًا في مفاصل الاقتصادات القومية، في مرحلة أولى، ثم الاقتصاد العالمي في مرحلة ثانية. والسيطرة السياسية في مرحلة ثالثة. أما في العلم الاقتصادي، ذي المركزية الأوروبية، فبعد أن كانت النقود عقيمة لا تلد، كما قال أرسطو، وبعد أن كان المرابي هو أكبر عدو للإنسان بعد إبليس مباشرة، كما ذهب مارتن لوثر. بدأت الأفكار الخاصة بالفائدة تتبلور إنما دون ارتباط بمفهوم الزيادة، القائمة بالأساس على العدوان، بل بالارتباط بظاهرة “استعمال” النقود. فلقد جرى التخلُّص تدريجيًا من السمعة التاريخيَّة السيئة للمرابي؛ من خلال إنشاء منظَّم للمصارف على نطاق متسع وإحاطة أعمالها بسياج من الغموض والتضليل والتعقيد والألغاز للغالبية من المتعاملين معها! كما جرى افتراض الربح دائمًا، دون النظر، بوعي أو بدون وعي، إلى مصدر هذا الربح الدَّائم! وهو الَّذي ينتج، على الدوام بالنسبة للمصرف، عن الفارق بين سعري الاقتراض والإقراض. كما أسهمت حركة التصنيع في انتقال ظاهرة تسليع الرأسمال إلى حقل النشاط الاقتصادي في غرب أوروبا. ولذا، رأى جان ب. ساي أن التسمية الصحيحة لعملية إقراض المال بمقابل هي Usury، وليس الفائدة Interest. فالمقترض يستعمل النقود التي يقترضها في سبيل تحقيق الربح ]لا نعرف أبدًا ما الحل عند الخسارة![ ومن ثم يحق للمقرض أن يحصل على نصيب في هذا الربح الَّذي يجنيه المقترض. (ج. ب. ساي، الاقتصاد السياسي، ص384). ولذلك، أيضًا، دافع ألفريد مارشال عن الفائدة بوصفها نصيب المقرض في الربح الَّذي يجنيه المقترض، فلا معنى لدى مارشال للإقراض بلا مقابل. (مارشال، المبادىء، ص496). وصار بالتالي مستقرًا لدى العلم الاقتصادي، ابتداءً من فكرة “الاستعمال” تلك (ج. كاسل، طبيعة، ص17)، والتي ستنتقل بدورها إلى بعض الأذهان في العالم العربي دون أي مراجعة، كالعادة، أن:”الائتمان عملًا اقتصاديًا، لا مبرة ولا إحسانًا، ولما كانت رؤوس الأموال مثمرة الربح ]لا نعرف أبدًا، أيضًا، ما الحل إذ لم تكن مثمرة![ بين أيدي الَّذين يحسنون تصريفها، وجب على المقترض، وهو الَّذي يؤتمن، أن يرد أصل المال مضافة إليه فائدة متفق عليها من قبل”. (ب. ل. بوليو، الموجز، ج3، ص67-68). وأصبحت الفائدة، ابتداءً من مبدأ مجرد “الاستعمال”، لا الزيادة القائمة على عيوب العدوان، محكومة بالقاعدة التالية:”من مبادىء العدالة الطبيعية إعطاء مقرض النقود جزءً من الربح الَّذي يحصل عليه المقترض”! (جيلبرت، التاريخ، ص163). ولكننا لا نعرف أبدًا رأي العدالة الطبيعية إذا لم يستطع المقترض تحقيق الربح! إنما نعرف فحسب خراب البيوت وتشريد الأسر، وأحكام الحبس والحجز، لجل من تعامل بالقروض مع المصارف. كما نعرف، وبكل وضوح، الممارسات غير الأخلاقية لشركات تحصيل ديون المصارف لدى المدينين.