حيز حضري

نصرالدين عبدالقادر: فسلفةُ الهَدَندَوِيِّ وخُطبَتُهُ الناجزة..!

 

 

عزفٌ على الروحِ

أم ضربٌ على طارِكْ

تلك الصَبِيَّةُ هزَّتْ

عرشَ أفكارِكْ

هل يُطفئُ الشوقُ

نيرانًا بأَوتارِكْ

أم تستضيءُ عذابًا

من سَنَا نارِكْ

 

تَحتَ ظِلِّ خِرقةٍ، على شَجَرَةٍ بِقَارعةِ الطريقِ، ثمة أشياءٌ تظنُّها نفايات.. ثلاثُ أثافٍ.. مِقلاة بنٍ.. جالون ماءٍ ملفوفٌ بالخيشِ.. إنه بيتُ الهدندويِّ في شرق بلادي.. في مكان يبدو كمنتجعٍ للقسوة.. جبالٌ حوافها كأنَّها مُدى.. جملٌ لا يجدُ سِوَى العشب، وهو المعتاد على الأكل برأس مرفوعةٍ.. لكنّ الطبيعةَ تجبره ليصيرَ منحيًا احترامًا لها..

قلت: بأيِّ عصْرٍ يعيش هذا الهدندويُّ.. الذي لا يبدو أنه متصالحٌ مع الأمر فحسب، لكنه يعيش معه في رباطٍ حميميٍّ.

 

جملٌ يأكل العشب

شُجَيرات صغيرةٌ

جبلٌ غمرتْهُ الرمال

 

أحاول الهايكو على طريقة باشو

لكنني فاشل في التأمل

فغابت البِرْكةُ وحَضَرتِ الرمال

لم تقفز الضفدعةُ .. بل جملٌ هناك تحرك

فليس ثمة ما يُشبِهُ الأمرَ هنا وهناك

لكنَّ ثمة ما يجمع الناسَ في بِرْكَةِ الرُّوحِ،

فيصير الهناك هنا

والهنا من هناك

 

يا لِقسوةِ عيشِ الهدندويِّ

بين رملٍ وصخرٍ

وبردٍ وحرٍّ

وماءٍ شحيحٍ

لا تبتغي غيرَ بُنِّكَ والقهوةِ الطازجةِ

تُحَمِّصُها نبتةً نبتةً

كأنَّكَ تحملُ من عمقِ عُصارتها تاريخَ معنى الحياةِ

 

يقول: ليس ثمة ما يثير الشقاء إلا بمن شحبت روحه بالمخافةْ

فهْوَ محضُ خُرافةْ

لا تخف يا أخي

وعِش الحياةَ كما أنتَ في اللحظةِ الخاطفة

لا تقاوم فيضَ الطبيعة

دعها لتمضي بأيامها النازفة

 

الجبالُ هنا وهناك تثبت أركان هذي البلاد

لو لاها لطارت بعيدًا من فرط ما وطئتها سنابكُ خيلِ المغول

نحن نُحبُّ الحياة

كما تشتهيها الحياة

وتُعلِمُّنا ذاتَها قطرةً قطرةً

وليس ثمة عِلمٌ في ثنايا الكتب

 

قلتُ في نفسي: تأخرتَ يا صاحبي

فقد عذبتني المعارفُ.

ويْكأنَّه يقرأ ما يدور بخاطري، قال:

تناسى ما سكبوه برأسِكَ.. لا تكترثْ

وانظر.. لماذا الحياةُ تصيرُ هلاكًا كُلّمَا أوغلَ البَشَرِيُّ في ذاتهِ العارفة

وتحدى الطبيعةَ النازفةْ

وتناسى أنَّ الرؤى كاشفةْ

 

قلتُ: وأين تعلمتَ ترانيمَ صبركَ في ظل هذي القساوةِ؟

قال: تأمل رقةَ طرفِ الجبلْ

ودموع الحنان بعين الجملْ

هنا تشرق الروح على الروح:

نعيشُ لقهوتِنا

نذوب في بُنِّنا

لا تحملوا همنا

فقط اتركوا ما لنا

من حياة هنا

لا تضربوا شملنا

 

أيها الهدندويُّ يا لِقَسَاوةِ طَبعِكَ !

هل طبَّعَتْكَ الصخورُ بِحِدَّتِها؟

أم زمهريرُ الشتاء،

حين تنام بحضن العراء؟

أم شمسك الحارقة؟

قال: بل انظر إلى روحها العذبة الطيبة..

سوف ترى كم هي أرواحنا عذبةٌ طيبة

نفيض بما لا يملك الطيبون سوى حُبِّ طبيعتِهِم

 

فثَمَّ اتحاد لطيفٌ بين قسوةِ تلكَ الجبال

وهجيرِ الرمال

ورقةِ تلك النفوسِ القريبةِ إلى ذاتِها السامية

 

توتيل هناك يعانق تاكا

وتمد الحِبالَ اتصالا بمرةْ

وتسعٌ وتسعون أخرى

تغني برسْمِكِ مندي

ومَرَّةْ يغني: الأماتونج حرة

وآمون بالبركل خلد ذكرى

 

حين تغضب تلك الجبالْ

ليس ثمة ما يوقفُ الاشتعالْ

 

الهدَندَويُّ ابنُ الطبيعةِ.. بينهما حبٌّ كبيرٌ.. يترك للتراب أن يتغلغل بين مسامه مختلطًا بالعرق.. لا يتذمر من أيِّ شيءٍ ولَّدَتهُ هنالك.. وحين يستحمُّ فهو يستعد لفيوضاتٍ جديدةٍ من تربةِ أرضِهِ الطاهرة.. لا للتخلصِ مما يُسَمونَهُ اتِّسَاخًا…

 

عزفٌ هو العِشْقُ

أوجاعٌ بمزمارِكْ

في غابةِ العِشْقِ

تحلو كلُّ أوزارِكْ

 

تمنيتُ لو التقيتُكَ قبلَ فواتِ الأوان..

كُن أنتَ أيها الهدندويُّ الأصيلُ لتكملَ نصفيَ الجاهل.

 

قال: وهل أنتَ سواهم؟

 

قلت أنا النازح من غابة الشعر إلى رَغَدِ النثر..

حيث يقول المُعَذَّبُ في سِرِّهِ: “ستعثُرُ الأنثى على الذكَرِ الملائمِ في جُنوحِ الشعرِ نحوَ النثرِ”

أريدُ الجنوحَ إلى تمرِ أبي مِدين الغوث/ وبِرْكةِ باشو، وقهوتِكَ الطازجةِ.. أيها الهدندويّ أخي.. وابن أُمِّي الطبيعة.

_____________

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى