عثمان ميرغني يكتب التحفظ على رأس النظام..
في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات، بالتحديد الخميس 11 إبريل 2019، وبعد ساعات من عزف المارشات العسكرية من إذاعة وتلفزيون أم درمان، أطل الفريق أول عوض بن عوف وقرأ البيان رقم واحد.. كنت استمع للبيان في سيارتي وسط فيضان من الجماهير التي تدفقت إلى الشوارع في كل مكان، عندما كنت أنزل من كبري المك نمر كان إبن عوف يختتم بيانه في اللحظة ذاتها التي اندلعت فيها هتافات مدوية (زي ما سقطت.. تسقط تاني) وأخرى نالته في شخصه، كانت أسرع رد فعل على قرار، فالشعب أعلن رفضه للفريق أول عوض بن عوف من أول نظرة..
بصراحة.. في لحظتها أحسست بأن هناك خطأ ما.. في مكان ما..
لماذا يطلب الشعب إبعاد عوض بن عوف؟
وأدركت منذ تلك اللحظة أنه ما لم يُستدرك الأمر وبسرعة فإن المسار سيقود إلى متاهة كبرى..
سارعت في اليوم التالي وعبر “لايف” بصفحتي في الفيسبوك نقلت وجهة نظري في أثير مفتوح للجميع..
و لمزيد من تأكيد ما قلته ذهبت بنفسي إلى القيادة العامة والتقيت ببعض قادة المجلس العسكري، وهم لا يزالون مجرد ضباط لم يخالطوا فتنة السياسة.. وقلت لهم ليس من الحكمة أن تتصوروا أنكم البديل الذي من أجله ثار الشعب.. والأفضل أن تعلنوا تشكيل “مجلس الدفاع والأمن” وتنتقلوا إليه لتحرسوا الثورة لا لتحكموا باسمها.. واتركوا الحكم لحكومة مدنية تشكلها قوى الحرية والتغيير.. ولا تزال في ذاكرتي ما قاله أحدهم.. نحن نوافق على ذلك لكن فلنسمع هذا القول من الحرية والتغيير..
الفريق أول عوض بن عوف لما أذاع البيان معلناً انحياز المؤسسة العسكرية السودانية، كان يستجيب باسم الجيش لطلب رسمي تقدم به الشعب السوداني المحتشد في ساحة الاعتصام أمام القيادة، ونطق به المهندس عمر الدقير ممثلاً عن الشعب في خطاب شهير طالب فيه الجيش بالانحياز للشعب.
كان الفريق أول عوض بن عوف ورفاقه يفترضون إنه بمجرد اكتمال إجراءات (التحفظ على رأس النظام) والسيطرة على الحكم، فإنهم يستحقون وسام “سعيكم مشكور” ، تنتهي مهمة المكون العسكري لتنتقل السلطة إلى الحكومة المدنية التي بالضرورة يجب أن تكون جاهزة بعد خمسة أشهر من المظاهرات والدماء والمعتقلات و رجاء وانتظار الإطاحة بالنظام الباغي..
و لن انسى أبداً إنني طوال فترة اعتقالي كنت أقول للقادة السياسيين في المعتقل يجب الاستعداد لـ”اليوم التالي” وحددت لهم بالضبط ما أقصده فقلت لهم مباشرة بعد إذاعة البيان رقم واحد من الجيش.. يجب أن تذهب قوى الحرية والتغيير الى الأذاعة لتذيع البيان رقم واحد للحكومة المدنية التي تتسلم الحكم .. وتصبح مهمة الجيش حراسة هذه الحكومة لا قيادتها..
الواقع كان عكس ذلك تماماً، فبدلاً من تشكيل حكومة لتسلم الحكم بعد سقوط النظام، إذا بالشعب يطالب بتغيير رأس المكون العسكري.. بعبارة أخرى كأنما ذلك تفويض وإقرار بأن المكون العسكري هو الحاكم.. فالشعب لم يهتف مطالباً برأس دولة مدني يتولى الحكم.. بل طالب بتعديل في المكون العسكري..
وكان للشعب ما أراد – ربما وسط دهشة المكون العسكري نفسه- استقال ابن عوف، وفوق البيعة أخذ معه الرجل الثاني في الترتيب العسكري الفريق أول كمال عبد المعروف.. وتولى بدلاً عنه الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
ولا أثر لأية حكومة مدنية.. بل لا مطالبة..
ومر اليوم الثاني ، والثالث، والرابع، ثم كان أول اجتماع بين الحرية والتغيير والمكون العسكري داخل القيادة العامة، وخرج المهندس عمر الدقير بعد الاجتماع لينقل للشعب من منبر في ساحة الاعتصام، فقال بالحرف ( حدثناهم عن إطلاق سراح البوشي و ودقلبا.. وقد وافقوا.. ثم حدثناهم عن تصفية ومصادرة دور المؤتمر الوطني وقد وافقوا..) وكان بين كل جملة والأخرى هدير وهتاف وتصفيق مدوي..
المكون العسكري بعد أن كان مجرد “لجنة امنية” انحازت لمطالب الشعب، تحول إلى حاكم تقدم إليه الطلبات.. و يوافق عليها ثم يفرح الشعب لأنه استجاب لطلبات إطلاق سراح المعتقلين وتصفية المؤتمر الوطني.. بدلاً من أن تشكل حكومة مدنية هي التي تقرر وتنفذ هذه الإجراءات.. كان واضحاً أن عملية “تنصيب” المكون العسكري تمضي بسلاسة..
بعد يومين طلب جديد من قوى الحرية والتغيير موجه للمكون العسكري، إقالة رئيس القضاء.. وفوراً تجد الموافقة.. فكل طلب وموافقة يعني ترسيخ من هو الحاكم ومن هو المحكوم.. ثم طلب بإقالة النائب العام، واستجابة من المكون العسكري. وهتافات في ساحة الاعتصام من نشوة الاستجابة للطلبات..
ثم طلب بإقالة وكيل وزارة الإعلام عبد الماجد هارون.. واستجابة فورية من المكون العسكري..
ثم الطامة الكبرى.. طلب بإقالة ثلاثة من المكون العسكري.. الفريق عمر زين العابدين.. الفريق جلال الدين.. الفريق الطريفي..
كانت الصورة الغريبة واضحة.. بدلاً من تسلم الحكم من اللجنة الأمنية بعد انجازها لانحياز الجيش للشعب، تتواصل عمليات ترميم رأس الدولة الجديد المكون العسكري.. أشبه بفريق لكرة القدم يقدم طلباً لفريق آخر منافس أن يغير طاقم المهاجمين.. فالجماهير بدلاً من الضغط للحصول على سلطة مدنية خالصة إذا بها تمارس عمليات تجميل للمكون العسكري ليتولى السلطة بطاقم جديد..
هنا أدرك المكون العسكري أنه لا يواجه عملية “تسليم وتسلم” للسلطة للشعب الذي أطاحت ثورته العظيمة بالنظام البائد.. بل تعزيز لقبضته على السلطة.. ومن هنا بدأت المفاوضات مع الحرية والتغيير تتغير..
وعندما أدركت الحرية والتغيير حجم المأزق الذي أوقعت فيه الثورة.. أنتجت الهتاف الشهير “مدنياووو”.. بعد فوات الأوان..
كل ما جرى في الأربع سنوات منذ انتصار الثورة حتى اليوم، هو محاولة لتصحيح الخطأ الذي سلم السلطة للمكون العسكري في أول أيام النصر بعد الإطاحة بالنظام