مع مرور السنوات، نتغيّر وتتغير قناعاتنا، تختلف رؤيتنا، قد يبدو الأحمر أصفر، والثمين رخيصًا، والقوي ضعيفًا وهكذا. ربما اتسعت حدقتا عينيّ، ربما ضاقتا، ربما انغلقتا أو تلَف بصرهما كليًا وانعدمت الرؤيا من رأسها حتى ساسِها، وربما لم تكن موجودةً من الأساس!
ولو عاد بي الزمن، هل أتغيّر؟ هل أتراجع عن أشياء كنت أستميت للوصول إليها ولمّا وصلت ندمت؟ هل أتمسّك بأشياء فقدتها في ساعة غضب حمقاء؟ هل أستعيدها؟ بالتأكيد لا، فقدت الرؤية في عيني اليمنى، في أول خمس سنوات من معاناتي كنت أتذكر وألعن قدري مرة وأتوسل الزمن أن يعود لأتجنب هذه الضربة، أو أُدافع عنها بشكل أفضل، مرت عشر سنوات على الخمسة وصار لدي يقين أني لا أريد استعادة رؤيتي، ولن أحاول، قناعتي تغيرّت، أدركت الحكمة من وراء هذه الخسارة، رؤية الحقيقة كاملة بوضوح شديد، مؤلمة لن أحتمل بشاعتها، قد أبصر الخراب الذي خلّفته السنون على بشرتي، قد أبصر الثقوب التي يتسرب منها النمل في جدار أراه اليوم مثاليٌّ ومكين، وحتما سأبصر في هذا العالم من حولي ما لم أبصره من قبل؛ النفايات وحجمها الطبيعي، القطط بشعة، الرفوف في المتاجر والتسعيرة الحقيرة، الشطب في زجاج واجهات البنايات، التجاعيد التي تحقن بين الحين والحين، بقع الزيت على الأسفلت الذي طالما بدا لي أسود ونظيفًا! اللعنة ماذا عساي أرى وأرى، لن أحتمل الوقوف دقيقةً كاملة أمام المرآة، لن أحتمل بشاعة التفاصيل والحقائق العاهرة.
دعونا نتقدم في العمر والعهر، دعونا نفقد رؤانا شيئًا فشيئًا كي نستطيع الاستمرار ومواكبة الغلاء والغباء والشيخوخة ونتقبل قذارة من حولنا بقذارةٍ لا نبصر رائحتها! لأن الروائح متشابهة ومتساوية شكلًا ولونًا، إلّا من رحم ربي وكان يملك أنفًا وأنفةً ولم يفقد حاسّتي الشّم والسمع، فهنيئًا له تعاسة الرؤى والوضوح.
“ألا ليت لي عينٌ ضريرةٌ، ولا أبصرت يومًا وجهّكَ الفتّان، ولو كنت أعلم أن أقنعة القلوب تزولُ، لخلعت قلبي وتبدلّ النسيانُ. لكن قدري أحمقٌ وكفيفٌ وضع السفيه أميرًا ونصّب الشيطان والحيوان”