“بإمكاني أن أقتلك فيما مضى وفي ثانية وأُريح العالم منك لكنني لن أضرج يداي بدمك، وان فعلت لن أُنهي هذه المسألة من جذورها، لأن غداً سيظهر وغد آخر مثلك وفي مكان آخر في هذا العالم، كما لو أنه شبحك، ويشبهك في كل شيء في كل الرذائل التي تقومون بها..
كما ليس بإمكاني أن أجوب العالم طولا وعرض، من أجل القضاء عليكم، وهذا عمل وإن كان في مصلحة البشرية إلا أنه مكلف بالنسبة لي، لكنك الآن قد تجاوزت حدودك….
أنا الآن أضرب على الآلة الكاتبة في الكمبيوتر لأكتب لك هذه الرسالة، وسأرسلها لك بالبريد حالما تكتمل، الجو هنا متوسط والكهرباء لم تنقطع منذ الساعة الرابعة مساءً في قرية (ن. ر. ج) السماء هادئة إلا من سحب تعبر أحياناً بين الأرض ووجه القمر فتلقي بظلالها في منظرٍ بهي، ولو نظرت إلى القمر يخيل إليك بأنه يسير، لكن ما نراه الآن هو سير السحب، لكنه هو أيضاً يسير و ببطء وهذا شيء رائع … القرية هادئة جداً في الليل والنباتات ترسل عطرها فتضفي عطرا طبيعياً منعشا، ولا يكلفك الأمر التمشي في الأرجاء لأن العطر يتمشى بنفسه فوق الحقول… الطرقات وحتى داخل الغرف، صنعت قهوة لذيذة قبل قليل وتناولتها وحدي، ولو أنني تأخرت دقيقة واحدة لاشتركنا مع جارتي في تناولها، لأنها زارتني اليوم، أمضينا معا وقتاً ممتعاً، تحدثنا فيه عن جرائم القتل كما تطرقنا أيضاً لمسائل مشابهة، مثل كيفية إخفاء الجثث ومحو آثار الجريمة، وكيفية التعامل مع رجال التحري وتضليلهم، وأيضاً ناقشنا أمر التعابير الدقيقة التي تظهر على وجهه القاتل وسلوكه العام، وهذا شيء مهم بطبيعة الحال، وبما أنني قد فتحت لك موضوع الجو وهدوء القرية سأكمل لك سرد الحكاية…
قبل أسبوع هطلت أمطار غزيرة في المنطقة، غسلت وجه الأرض، النباتات يانعة وكأنها في سباق نحو الربيع، المنازل تزينت أطرافها بحقول صغيرة من الذرة الشامية… نوار البامية ومجموعة من أزهار الشمس، المنظر هنا كما هو معروف لديك في موسم الخريف، كل شيء رائع وجميل، حتى الهواء هنا عندما تهطل الأمطار يصبح نقياً ومنعشا.. وبما أنني سأقتلك بعد يومين أو ثلاثة أيام أو ربما اسبوع، سأغلق مسألة وصف القرية هذه والجو، وسأعود لما هو مهم…
قد تبتسم وتقول:
هذه المرأة غبية لأنها تركت وراءها دليل جريمتها وهو هذه الرسالة، أقول لك ماذا ستستفيد لو أنني اعترفت بقتلك بنفسي، أو فالنقل قمت بإنهاء أمرك في منزل القاضي وأمام عينيه، هل سيفيدك عقابي بشيء؟
كم أنت أحمق!
والآن قل لي بأي طريقة تريدني أن أقتلك؟
أذبحك؟
بالطبع لا
هل أطلق عليك رصاصة؟
لا هذا عمل جبان
مارأيك بالشواء على نار هادئة؟ برأيي هذا ممتع، لأنني بينما أعد قهوتي وأتناولها تكون أنت قد فقدت القدرة على المقاومة والصراخ، وسيكون من الممتع أن أسمع صوت قطرات زيت جلدك وهو يقطر على النار..
والآن أستعد!!
إنتهى.
التوقيع م. أ. ط.
يتلقى/ ط. ج. ف. في الصباح الباكر بريداً مغلفا وعليه توقيع زوجته…
يجفل قلبه… تختلط أمعائه… وتصدر أذنيه صفيرا متقطعاً، فيتغيأ على فراشه ويشعر بحمى تسري في بدنه، وهذه أعراض من الطبيعي أن تحدث لشخص تلقى وفي أول يومه رسالة كهذه.. وعند منتصف النهار تتراجع حالته إلى طبيعتها، فينهض لمواصلة قراءة الرسالة..
كيف عَرَفتْ؟ يتساءل….
قرأ الرسالة مرة أخرى ليعرف ربما حددت تاريخاً لجريمتها المحتملة، لكنه لم يعثر على أي إشارة بتاريخ القتل..
من المحتمل أنها ستقتلني اليوم وفي منتصف الليل بينما أنا نائم، وفيما هو يفكر باضطراب خطرت له فكرة رائعة من شأنها أن تحسم هذه الأزمة…
قال:
مخاطباً نفسه كشيخٍ ارتكب كل جرائم الدنيا وتاب…
على المرء أن يطلب المغفرة، أن يعترف بأنه وغد… حثالة… وأمام العزيزين عليه كي ينال الشفقة وهذا أكثر ما سيحصل عليه…
في الطريق إلى القرية كانت السماء ممطرة على طول المسافة، وكان رأسه يعج بمجموعة من الأفكار المخيفة، فيما يخص مسألة الإعتراف أمام قاتلته المحتملة، لكن المجرم المقدم إلى المشنقة كل ما يتطلع إليه هو العفو ليعيش ولو يوم لأجل التوبة والعمل الصالح….
في القرية وأمام المنزل بالضبط، وتحديداً بين يدي زوجته وأمام عينيها، ارتحف/ ط. ج. ف كقطعة قماش أمام الريح وسقط..
رفعته من مكانه وأدخلته الحجرة، أشعلت الضوء…خلعت ملابسه، وضعته على الفراش في أرضية الحجرة ودفأته قليلاً ، فاستيقظ لكنه ظل فاقداً القدرة على النهوض، أمرته أن يبقى في مكانه، وأخذت ملابسه وفيما كانت تلقي بها جانباً، وقع صندوق صغير من جيبه ففتحته ووجدت عليه الرسالة، وضعتها في جيبها وعادت إليه مسرعة، بدى لها مطواعاً، لو قالت له اجلس جلس، ولو أمرته بالنهوض نهض من فوره، أخذ يقوم بما تأمره به بكل وداعة، عرضت عليه أن يأكل فوافق، فأشعلت الموقد وأجلسته جواره، كان خائفاً، ولمجرد رؤية الموقد كان يتذكر مسألة القتل بالشواء لكنه واصل الأكل لأنه جائع كما أن الجو بارد أيضاً والطعام في هذه الحالة لذيذ ومفيد، عادت هي لتقرأ الرسالة ، كانت الرسالة كاملة مختومة بتوقيعها الشخصي، وبجانبها رسالة أخرى، كان هو قد كتبها لتقديم الإعتراف في حالة تأزم الأمر وباتت المواجهة مستحيلة بينه وبين زوجته، كما ارتأى أيضاً أن التفاهم عبر الرسائل لا يقل أهمية من غيره، وقد يضمن سلامته حتى حين، أما هي الآن فقد قرأت الرسالة وفهمت عنه الكثير، ولما عادت عانقها بحرارة وهو يتوسلها أن تتفهم وضعه وتسامحه، وكانت قد واجهت صعوبة بالغة لتفك يديه المشبوكتين خلف ظهرها ورأسه الموضوع على كتفها… جلسا وبدأ هو الإعتراف بكل جرائمه أمامها، تحدث عن كل شيء وهو يبكي، أحست الزوجة أنه قد يكون صادقاً في قوله وأنه تاب وعليها أن تبحث له في ماضيهما عن كل ما حصل بينهما من جمال لتسامحه عليه، لكنها قبل ذلك كان عليها أن تبحث بنفسها وبدقة عمن زور توقيعها وكتب له تلك الرسالة، التي قادته للإعتراف بكل شيء.