مقالات الرأي

إسماعيل فركش يكتب: في الذكرى العشرين لرحيل الدكتور جون قرنق دي مبيور

سودان ستار

 

في الذكرى العشرين لرحيل الدكتور جون قرنق دي مبيور

بقلم: إسماعيل أحمد محمد (فركش)

 

أول الأمس كانت الذكرى العشرون لرحيل الدكتور جون قرنق دي مبيور، قائد ثورة العدالة والتحرر الوطني، الذي استُشهد في 30/7/2005 إثر حادث طائرة حربية أقلّته من مقاطعة نيوسايت بجنوب السودان، وكانت متجهة إلى يوغندا. كان ذلك التاريخ المشؤوم علامة فارقة في تاريخ الدولة السودانية الحديث.

 

كان الدكتور جون يتمتع بشخصية كاريزمية عالية جدًا، بفضل خصاله التي اشتهر بها: نضاله، صموده، شجاعته، وإنسانيته، في سبيل تحقيق هدفه الذي ناضل لأجله. هذه الخصال كرّست له حضورًا كبيرًا في الوجدان الشعبي السوداني، الذي عشقه وأحبه كثيرًا.

 

بدأ نضاله في حركة “الأنانيا ١”، وبعد اتفاقية أديس أبابا للسلام أصبح ضابطًا في القوات المسلحة خلال حكم الرئيس نميري. كان الدكتور جون يعلم تمامًا حجم التهميش الذي يعانيه إقليم الجنوب من نقص في الخدمات الإنسانية، من تعليم، وعلاج، وبنية تحتية، خلال تلك الحقبة.

 

خرج الدكتور جون ومن معه من أبناء جنوب السودان من الجيش السوداني، وأعلن تمرده، وقام بتأسيس حركته المسلحة الجيش الشعبي لتحرير السودان في 16/5/1983، برئاسته. كانت هذه الحركة مكونة من عدة إثنيات وقبائل من جنوب السودان، وكان هدفها المطالبة بدولة المواطنة والحقوق، التي تحفظ لهم حقهم كمواطنين سودانيين.

 

ومنذ ذلك التاريخ، اندلعت الحروب بين جيش نظام النميري والجيش الشعبي لتحرير السودان، في مناطق متعددة من أقاليم السودان، كجنوب السودان وجنوب النيل الأزرق وغيرها. واستمرت هذه الحروب لفترة طويلة، وأثرت سلبًا على الاقتصاد السوداني، إذ كانت نصف إيرادات الدولة من النفط والزراعة والتصدير وغيرها، تُوجَّه إلى الدفاع والأمن والشرطة.

 

وعندما جاء نظام الإنقاذ، عمد إلى إبرام اتفاقيات جانبية مع بعض رموز المعارضة المسلحة من جنوب السودان، ووقّع اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1999 مع الدكتور رياك مشار ولام أكول، والتي فشلت لاحقًا، لأن نظام الإنقاذ لم يكن يحترم العهود والمواثيق الدولية.

 

وفي العام 2002، تم توقيع بروتوكول مشاكوس، الذي مهّد لتوقيع اتفاقية نيفاشا في 2005 بين نظام الإنقاذ والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق. نصّت الاتفاقية على منح منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية للجيش الشعبي، إلى جانب بعض الوزارات، كما كفلت تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد خمس سنوات.

 

وفي يوليو 2011، قرر شعب جنوب السودان مصيره عبر صناديق الاقتراع، واختار الانفصال عن الشمال، وأعلن استقلاله.

 

تشكّلت حكومة جنوب السودان الجديدة برئاسة الفريق سلفاكير ميارديت، النائب الأول السابق للرئيس عمر البشير، وتكوّنت الحكومة من القوى السياسية الموجودة في جنوب السودان، تحت قيادة النظام الحاكم (الحركة الشعبية لتحرير السودان).

 

وبدأ تاريخ جديد لشعب جنوب السودان، الذي لأول مرة ينفصل عن شمال السودان، ويبدأ حياة جديدة، بعيدة عن الممارسات والضغائن الاجتماعية التي كانت تحدث في ظل المجتمع السوداني الموحّد، من بعض أبناء الشمال في المركز والأقاليم.

 

في الحقيقة، كان مواطن جنوب السودان يُعامل وكأنه من الدرجة الثانية، وكانت تُطلق عليه مصطلحات غير إنسانية، مثل: “عب”، وهي مهينة للغاية، إلى جانب مصطلحات أخرى ساهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي، مثل: “زُغازي، جَعلي، فوراوي، شايقي، أدروب”، ومصطلح “مندكور” الذي يُطلقه الجنوبيون على “ود العرب”.

 

هذه المصطلحات هي موروثات مجتمعية زرعها المستعمر البريطاني في بنية المجتمع السوداني منذ الاستقلال، ولم يستطع الشعب السوداني تجاوزها.

 

للحقيقة والتاريخ، فإن انفصال جنوب السودان كان مسؤولية نظام الإنقاذ أولاً، الذي تبنّى سياسة التهميش، ما ساعد في تمزيق المجتمع، وكرّس لدور القبيلة والمحسوبية والشللية. وقد أدى ذلك إلى انتهاك نسيج المجتمع، وتم الاستيلاء على الوظائف والامتيازات، وتهميش إنسان الهامش، وحرمانه من الخدمات الأساسية كالعلاج والتعليم والبنية التحتية وغيرها.

 

كان الدكتور جون أمل الشعب السوداني في بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة بين كافة فئات الشعب بمختلف مكوناته وأعراقه. فقد كان يتبنى مشروع “السودان الجديد” الذي ألّف له، ونظّر له، وعمل على تحقيقه. وهو مشروع يهدف إلى إقامة دولة العدالة والمساواة، ويقوم على أطر جديدة تسع الجميع بلا تمييز. وكما قال الدكتور جون في خطابه عن الهوية السودانية:

“الإسلام وحده لا يوحدنا، ولا المسيحية قادرة على توحيدنا، ولا القبيلة، ولا العروبة، بل السودانوية وحدها تستطيع أن توحدنا.”

 

للحقيقة والتاريخ، فإن الدكتور جون لن يتكرر في تاريخ الدولة السودانية، لأنه كان قادرًا على جعل السودان دولة متحضرة وديمقراطية. ففي فترته القصيرة بالقصر الجمهوري كنائب أول، أظهر حبه واحترامه للشعب السوداني من خلال خطاباته وندواته، وكان صادقًا في نواياه، صادقًا في عمله، وفي تجربته السياسية. لذا، عندما رحل، بكاه الشعب السوداني كثيرًا، لأنه فقد الرجل الذي كان يُمثّل بارقة الأمل للخلاص من حكم الإسلاميين في تلك الحقبة.

 

تمرّ علينا الذكرى العشرون لاستشهاد الدكتور جون قرنق دي مبيور، قائد ثورة الخلاص الوطني، بينما الدولة السودانية تمر بأسوأ حالاتها، في ظل هذه الحرب اللعينة التي دمّرت البلاد، وانتهكت الأعراض، وقضت على الأخضر واليابس.

 

لا للحرب، نعم للسلام.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى