ثقافة وأدب

أبية الريح: الريح وتمائم الاغتراب: قراءة في شعر محيي الدين فارس

سودان ستار

الريح وتمائم الاغتراب. 

 

قراءة في شعر محيي الدين فارس

___________________________

 

مقدمة: منامات الريح على وسادة الطين

****                ****                  **** 

منذ العصور الأولى للوعي الإنساني، شكلت الريح ظاهرة تتجاوز حضورها الفيزيائي لتغدو استعارة وجودية محمّلة بالرموز، الحياة والموت، الرحيل والوصول، الفوضى والنظام. في الشعر العربي، كما في العديد من الآداب العالمية، تحضر الريح كفاعل يخلخل الاستقرار ويكشف عن صراعات الذات. في هذا السياق تصبح الريح عند الشاعر السوداني محيي الدين فارس مفتاحا لقراءة بنية شعريته وممر لفهم عمق اغترابه الوجودي، وحضوره الثقافي والروحي.

 

أولاً: الريح في مرآة السيرة الذاتية – اغتراب الذات والجغرافيا: 

 

ولد محيي الدين فارس عام 1936 في جزيرة أرقو شمال السودان وارتحل شابًا إلى مصر للدراسة فتكون في فضاء ثقافي مزدوج بين التقاليد السودانية العريقة والحداثة المصرية. هذا التنقّل الجغرافي أصبح سمة من سمات قصيدته. الريح في هذا السياق تمثل حالة الوجود المعلّق، الهوية المتنقّلة، الجسد المُقتلع من جذوره. يقول في إحدى قصائده:

 

“والريح تمضغ وجه راحلتي.. فيلطمها الكثيب”

 

في هذا البيت، تمثل الريح عنف ذاكراتي يلتهم الرحلة ويشوّه الطريق. هذه التجربة الشعورية للاغتراب والاقتلاع تذكرنا بما وصفه المفكر إدوارد سعيد في كتابه Reflections on Exile يشير إلى أن:

 

“المنفى هو الشقّ الذي لا يُشفى، المفروض قسرًا بين الإنسان وموطنه، بين الذات وبيتها الحقيقي؛ حزنه الجوهري لا يمكن تجاوزه.” 

 

ثانيًا: قراءة في نصوص مختارة

 

في قصيدته – “تسابيح عاشق” البيت الذي ذكرته آنفا: 

 

“والريح تمضغ وجه راحلتي.. فيلطمها الكثيب”

 

تُشخص الريح هنا كائن فاعل مفترس ينهش، ما يُضفي عليها طابعًا دراميًا يُحيل إلى الطبيعة العدوانية للذاكرة والمكان. الكثيب يصفع في تآزر طبيعي – زمني مع الريح، مثل أن الذات تُسحق بين عنف الطبيعة وعنف التاريخ.

 

قصيدته – “المرسى وإيقاعات المماشي”

 

“أيها الآتي تغنيه جياد الريح للمرسى البهيج”

 

تنتقل الريح من رمز للفوضى إلى حامل للإيقاع إلى وسيط موسيقي إلى جواد يحث القادم على المضي قدما. نلاحظ هنا انقلابا في الوظيفة الرمزية للريح من معطِّل إلى دافع. هذه المراوحة تجعل الريح مرآة لحال الذات فهي القيد كما هي الحافز.

 

قصيدته – “قشر الكلام”

 

“ونفتح أبوابها للرياح”

 

تكشف العبارة عن هشاشة الذات أمام الخارج. “فتح الأبواب” هو فعل استقبال و لكن الرياح لا تحمل وعدا بالسلام. الرياح هنا تهديد بالانكشاف انفتاح على التبعثر والتلاشي.

 

قصيدته – “السلم”

 

“والريح تجذبني بمشجبها العنيد للقاع”

 

هنا تُجسّد الريح كقوة قاهرة تشدّ الشاعر إلى الأسفل نحو الغرق أو السقوط. المشجب | الذي يُعلّق عليه عادة الثياب يصبح استعارة للذاكرة التي تُثقل الذات وتمنعها من الارتفاع. إنها لحظة التوتر القصوى بين الإرادة والمصير.

 

قصيدته – “رحلة القادمين”

 

“هي الريح تقعى على سورنا وتمط الجبين وتطرق محزونه”

 

تغدو الريح هنا صوت الحزن الجمعي، ذاكرة الغياب، حدادا متجدّدا. حضورها يقترب من الطقس الجنائزي، كأنها مرسال الفقد، تمارس طقس الندبة باسم الجماعة.

 

ثالثا: الريح في ضوء الرمزية القرآنية والفلسفة الوجودية

 

الريح في القرآن تتسم بازدواجية المعنى:

 

﴿وهو الذي يُرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته﴾ [الأعراف: 57]

 

﴿وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم﴾ [الذاريات: 41]

 

في هذين السياقين، تكون الريح إمّا بشارة إما عذاب. هذه الازدواجية تتجلى بقوة في شعر فارس – الريح قد تقود إلى المرفأ أو إلى الغرق، إلى الصفاء أو إلى الفوضى. في هذا السياق، يبدو شعر فارس كأنه يتموضع داخل شبكة قرآنية رمزية، تعكس إحساس مستمر بالخضوع لقوة تتجاوز الإنسان. هذا الانجراف أمام ما لا يُرى، يضع الشاعر في تماسّ مع الفلسفة الوجودية التي ترى في الإنسان كائن متوتر بين الحرية والعبث.

 

رابعا : مقارنة عالمية – صدى الريح في أدب الآخر

 

١. فريدريك نيتشه والريح

 

في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” يُعبّر نيتشه عن نفسه كقوة طبيعية هادرة، قائلاً: 

 

“وأنا كالريح سوف أهبّ بينهم، وأنتزع من أرواحهم أنفاسهم: هكذا يشاء مستقبلي.”

 

هنا يصور نيتشه نفسه كريح عاتية، تعبيرا عن قوته الفكرية وروحه الثائرة التي تسعى لتغيير الواقع من خلال التأثير العميق. 

 

٢. ويليام بليك والريح – من قصيدة “Mock On, Mock On, Voltaire, Rousseau”

 

قائلا: 

 

“Throw sand against the wind, and the wind blows it back again.”

 

٣. ماتسوا باشو – من الهايكو الياباني الكلاسيكي

 

قائلا:

 

“Autumn wind — piping through a swinging gate”

 

هايكو مشهور لباشو، من تراثه الشعري يربط الريح بالتحول والموسمية واللاستقرار الهادئ.

 

في فلسفة الزن الريح ترمز للمجهول والتغير والمرور الصامت للزمن.

 

خامسا: البنية البلاغية للريح – من الصوت إلى الرمز

 

ما يجعل مفردة الريح مركزية في شعر محيي الدين فارس هو ثراؤها البلاغي:

 

تشخيص الريح كأنها كائن حي ذو إرادة ومزاج.

 

الاستعارة المركبة: “جياد الريح” أو “مشجبها العنيد” تفتح أفق التلقي على صور متعددة.

 

التكرار الإيقاعي: الريح تتحول إلى نغمة إلى موسيقى داخلية للنص.

 

الثنائية الصوتية: بين العصف والهمس بين الهدوء والانفجار وهو ما يخلق توازناً جمالياً عاليا.

 

خاتمة: 

 

الريح كذات شعرية متعددة الوجوه

 

في نصوص محيي الدين فارس تتشظّى – رمز للرحيل والعودة، للغربة والانتماء، للفقد والبعث. كائن شعري حي يتنفس، يصرخ، يهمس، ويشدّ القارئ إلى دوامة الوجود. بهذا تصبح الريح هي اللغة ذاتها – لا تهدأ لا تستقر ودائما تُحدِث أثر في الأشياء. وفي هذا، يكمن جمال شعر فارس وقيمته الفنية والفكرية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى