قراءاتكتاباتمقالات الرأيمقالات فكرية

ميرغني أبشر: التاريخ المنسي للحريم أو انتقام الإله الأم

سودان ستار

“لقد تآمرت المرأة دومـاً مع كافة صور الانحلال ضد الرجال الأقوياء” “نيتشه”.

 

ليس هذا القول استجابةً لعصاب “القرن الجندري” الذي يلهث ضالاً لفرض صيغ محاصصة مجتمعية جديدة للمرأة، كما أنه لا يقوم على أيديولوجيا أو مذهب ديني. إنه يُبشّر بفرضية جديدة، لا تنطلق من مقولة مُسبقة تبحث عن شواهد لتعضيدها، بل تنخرط في البحث عن إجابة تضاف إلى الركم التأملي المفسّر للشقاء الإنساني. إذن، هي محاولة لا تدّعي العلمية؛ فكل ما هو علمي، قابل للدحض!.

 

في تاريخ المدنيات القديمة، نجد الأصول الأنثوية للتكوين والخلق، إذ تحكي أسطورة التكوين البابلية “الإينوما إيليش” عن الوجود المنبثق من رحم وجسد الإلهة الأم المقتولة تعامة. هنا، نقف على رمزية ميثية حفظها اللاوعي الجمعي، تحكي – بعد سبر تضميناتها – عن إقصاء الإله الأنثى لصالح صعود الإله الذكر والدين الذكوري.

فالأنثى، ومنذ عصور سحيقة، تستبطن في لاوعيها قدر الإله السجين؛ ذاك الذي تمكّن، في لحظات متفرقة، من ممارسة انتقامه. وهذا ما شكّل ميراثاً دينياً-ثقافياً ثقيلاً ما زال يتجلى في الفكر والاقتصاد والسياسة، محمولاً بعصاب جمعي أقعد الإنسانية عن القيام بانقلاب روحي يعيد تعريف المعادلة الإنسانية بعيداً عن الثنائية المختلة: (الأنثى = الذكر) أو (الأنثى ≠ الذكر)، لصالح قيمة “الإنسان غير الملوث”.

بتتبع دقيق للمحمول الفكري للديانات السماوية الثلاث، نجد دومـاً موقعاً مميزاً للذكر: فلا نبوة للمرأة، ولا عصمة، ولا مساواة في الشهادة أو الميراث أو القسمة. وهذا تعبير عن ردة فعل ضد الهيمنة الأنثوية القديمة، التي يتجدد الانتقام منها في كل دورة تاريخية. ومع ذلك، ظلّت الأنثى – بقوة الإله الحبيس – قادرة على الانتقام، ولو استمر عقابها في النصوص، وعذابها للإنسانية.

فبعد أربعة قرون من انقطاع النبوة بعد ملاخي، جاء يحيى المعمدان كاشفاً هيمنة “هيروديا” على الملك هيرودس، فكان مصيره الذبح بتحريض منها، عبر ابنتها سالومي. وحين جاء المسيح، أحاطته المريمات الثلاث، وقد استحققن – حسب إنجيل مرقس – رؤية القيامة لأنهن بكرن إليه في الفجر. من هنا، نهضن بالدور الخفي في استمرار المسيحية “الأنثوية” لحد ما:

“لكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ…” (مرقس 16: 2).

ومن بين كل الرجال الذين تقدموا لخطبة “أمي” السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام، اختارت، بفراسة يحسدها عليها الإله الكامن في لا وعيها، الصبيّ محمداً “الرسول الأعظم”، لتكون له ظِلّاً إلهياً خفيـاً، قبل أن يتقدّم النص المقدس بدور “الإناث المتمرّدات” في صورة عائشة وحفصة، حيث نقرأ:

“إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا…” (التحريم: 4–5).

لينتهي المطاف بالرسول الأعظم إلى “اغتيال بطيء” — حسب بعض روايات السيرة — ناتج عن إرهاق الحروب النفسية والعملية، كامتداد لانتقام “الأم القديمة”. يقول ابن مسعود:

“لأن أحلف تسعاً أن رسول الله قُتل أحب إليّ من أن أحلف واحدة أنه لم يُقتل”.

(السيرة النبوية، ابن كثير، ج 4 ص 449)

ويؤكد الحاكم النيسابوري: “والله لقد سُمَّ رسول الله”.

ثم يخلفه سيدنا أبو بكر “رض” بدور مقدّر من السيدة عائشة أم المؤمنين، يليه سيدنا عمر بن الخطاب “رض” — أبو السيدة حفصة — في تراتبية غريبة تُبقي “الإله” تحت عين “الأنثى”، وفق شرط اجتماعي بدوي صارم لا يقبل الظهور المباشر لسلطة “الإلهة الأم”.

ومن هذا المنظور، يمكننا قراءة تاريخ المدنيات الإسلامية، من هند بنت عتبة واغتيالاتها الرمزية ضد “الإله الهاشمي”، إلى دور “حريم السلطان” في الخلافة العثمانية المتأخرة في الأستانة.

ومن بين اللحظات الكاشفة لهذا الصراع العاطفي-السلطوي، تبرز شخصية أسبازيا — معلمة سقراط ورفيقة بيركليس. فقد هجر بيركليس زوجته الشرعية، متحدياً قوانين أثينا، ليعيش مع أسبازيا علاقة حب واحترام وفكر. كانت عشيقته ومستشارته وملهمته، حتى قيل إنه كان يبكي إن أصابها مرض. لكنها، في أعين العامة، كانت رمزاً لانهيار هيبته، حيث سُخر من “ضعفه أمام امرأة”، وتعرّض للاستهزاء السياسي والاجتماعي بسببها. ومع ذلك، ظل لها حضورها في الحياة العامة والفكرية، تُلقي الخطب وتعلّم، فكانت تجسيداً لقوة “الإله الأنثى” المتسلل حتى إلى بلاط السياسة الأثيني.

إن الإله الأنثى ما يزال ينفلت من عقاله، في لحظات نادرة، ليمارس انتقامه الخفي. إنه تاريخ “النكد” البشري، والشقاء الإنساني. وهذا العرض، رغم محدوديته في عدد النماذج، يعكس أثراً يتجاوز الزمن. فمع كل استثناء ذكوري بارز، يظهر قربه طيف “الأم القديمة”، كما حدث مع نيتشه، الذي انتهى إلى الجنون بعد رفض تلميذته لو أندرياس سالومي.

إنه انتقام الإلهة الغائرة في ذاكرة الإنسان، والتي لم تعد تطالب بالمساواة، بل ببعث مجدٍ قديم طُمِسَ وآن أوان انتقامه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى