ثقافة وأدب

أبية الريح – كرامة القلب المستنير

سفر النفس إلى شوقها الأول (2)

 

للقلب المستنير ذبذبة تُلتقط. يعبُر ولا يتكلم، يُحَسّ. لا يعلو صوته، يشفّ وجوده. لا يطلب شيئا، لأنه مُكتفٍ بذاته. هذا القلب لا يركض في سباق العيون، لا يطلب التصفيق و لا يقيس قيمته بما يقول الناس ولا ينهار حين يُنسى على أرصفة العلاقات. لا ينتحب حين لا يُدعى إلى الطاولات فقط يزداد قربا من ذاته، كما لو أن النسيان عنده جسر (يا الله)!

هو قلبٌ لا يحقد ولا يكره لا يحمل دفتر ديون ولا يضبط ساعات انتقامه. حين يُساء إليه لا يرى العدو إلا أنه جهلاً يتعثر بنفسه. وحين يتهمه أحد بالبرود يردّ دون صوت وكأنما يريد ان يرد بمقدمة لحن (لا تسلني) لعثمان حسين.

وما بين هذا التجاوز وذلك الصمت لا يسكنه الفراغ .. يسكنه لحن. نعم لحن لا يتبدل. عثمان حسين. حين يبدأ “اللقاء الأول ” يغلق سليم – وهو اسم القلب هنا – عينيه وتبدأ الإجابات بالتكشّف. لا يحتاج إلى نصوص فلسفية، ولا إلى انتصار منطقي، فقط إلى مقدمة أغنية، إلى دفء وتر، إلى نايٍ يعرف مسارات دمه أكثر من الوريد.

القلب المستنير – حين ننسى ما يُقال في الكتب – لا يحتاج لأن ينتصر. لأنه يعرف أن النور لا يُهزم. النور لا ينافس. النور يشعّ، بصمت وثقة، حتى حين لا يراه أحد.

في المقاهي، حين يسقط عليه الحزن مثل نيزك، لا يستنجد، لا يتجمّل. يسقط معه كوب القهوة، ويلطّخ ثوبه الأبيض، فيعتذر للنادل عن قلبه الثقيل. فيضحك النادل، ويقول “أول مرة زول يعتذر لأن قلبه ثقيل!

إنه لا يخجل من البكاء. يبكي .. ويردد في هامش تساؤلات روحه “البكاء سلوك الكائن حين يتطهّر بلا فتوى.” لا يدّعي القوة. لا يرفع صوتا في وجه الوجع ولا ينكسر .. انما ينحني .. ويلين قوة.

الذين يلاحقون الاعتذار لا يعرفون ما يعرفه سليم. لا يعرفون أن البصيرة ترى في عمق الظلمة، أن النور لا يحتاج جمهورا ليصبح ضوءا، أن الكرامة هي شيئا آخر غير العناد، وأنها عذوبة لا تموت وأن الإنسان الحقيقي لا يتخلى عن عذوبته تحت القصف ويحتفظ بها كما يحتفظ المجنون النبيل بأغنيته حين يعبر بين سكاكين العالم.

وفي لحظة الحسم حين احتدام النقاش حين يُستدعى لاتخاذ موقف لا يصرخ.. لا يُنظر. لا يقاتل. ولكنه يسمع في داخله شيئًا. شيئًا يشبه جملة من مقام “وبرضو يحصل … “. يميل برأسه قليلاً. يهز كتفه كما لو أن اللحن قال له كل ما يحتاجه. ثم يختار الباب الذي لا يضيء من الخارج.

العزلة بالنسبة له عودة و حنين إلى خلوته القديمة .. إلى صدقه الصامت. إلى بكائه الخفيف. إلى اللحن الذي لا يشترط وجود جمهور كي يصدح.

هو لا يحتاج أن يُفهم. لا يُفسر نفسه ولا يشرحها. الشرح فعل دفاع وسليم لا يدافع.. سليم يعبر .. سليم لحن يحتاج لدفاع …

وإن سألوك كيف يعيش مثل هذا القلب؟ فقل لهم إنه يعيش كما تعيش الأغنية في ذاكرة عاشق… لا تموت. ولا تنتظر ولا تُعلن.

فإن أردت أن تعيش عزيزا كن ماء وقلب لا يطلب شيئًا… فيصير كل شيء.

 

ختاماً بأبيات للراحل حسين بازرعة:

أنت في عمري ربيعا دافئا يملأ نفسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى