قراءاتمقالات فكريةمنوعات

ميرغني أبشر يكتب: في “القدَّال” رُبَّانُ المحكيّة، و”فارس” سيِّدُ الرِّيح

سودان ستار

في “القدَّال” رُبَّانُ المحكيّة، و”فارس” سيِّدُ الرِّيح

 

لهم سيرةٌ واحدة، ولكنّها بحوامل ثقافيّةٍ منوّعة؛ تَنصّروا للكلمة البادعة الماتعة، صعبةِ القبض، سهلةِ المعنى، لا يأتي بها إلّا من تَطهّر بماءِ الغيبة ثلاثاً، وعاد في الناس نبيًّا يُبشِّر بين المستضعفين، ويُشير عليهم بدرجِ الصعود ودروبِ الخلاص.

هكذا استنطقني الجميل الباقي الراحل “القدّال”، محمد طه القدّال، والذي يضمّد من جرح رحيله بعضَ شيء، أن سيرته الشعريّة وحياته هي بين الناس أكبر من أن تُكتَب، وأنصعُ من أن تُظهر أو تُقال. ولكنّ المخفيَّ في قصيده، الذي يجهر ببداوة المجتمع في نظرته للمرأة، قليلٌ ما يطرقه طارق. فقد أُخذ الناس والنقّاد بمقاله السياسي، أنظرْ لمأساة الختان في “أحلام الحزن الفرعوني

🙁 التربة الأولى الموس الشفرة الصغرى

التربة الكبرى الموس الشفرة الكبرى

الوجعة الكبرى… الستر العار

العار

العار

الشهوة أنبهلت

إن المؤودة انسألت

يا ووب البَطْنَة الطلعت

يا ووب البَطْنَة الرجعت

يا ووب الروح الطلعت

روحاً مرقت تردح يا فرعون

يا ووب الأم الجاضي حشاها

العين في السماء والليد في جناها

يا ووب الضاقت في الميلاد

أم سترًا مكشوف… غطّيها

البت يا دوب بكريها

ويمضي بهذا المجتمعيِّ المرفوض، يدغمه في آخر نصّه بالسياسيِّ ومأساة الناس: فرعون الختان القاتل، وفرعون السلطان الغاشم. وهذا ما لا يستطيعه إلا القدّال بمفردته المحكيّة وثقافته الواسعة. فالصورة الشعرية عند القدّال غنية بالمثيولوجيا والفلكلور والقرآن والقص الشعبي. هذا بعض قليل من القدّال.

والآن دعني، صديقي القارئ، أذهب بك إلى راحلٍ آخر، له نفس السيرة ولكنها محمولةٌ هذه المرة بالعربية الفصيحة. أذهب بك إلى بعضٍ من جوانيةِ واحدٍ من ألمع فحول القصيدة العربية الحديثة، وأديبٍ وناقدٍ من الصف الأول العربي.

تعرّفتُ إليه بمنحى نقدي وأنا في صفوف الدراسة الثانوية، كنا وقتها كوادر متقدمة في صفوف حزبٍ عروبيّ، نقيم الدنيا ولا نقعدها في سبيل بعثٍ حضاريٍّ أماتته ريحُ رأس المال العالمي وعولمته التي كرّست لوحدة الموجود، الصيغة الغربية للحياة، بدلاً عن وحدة الوجود، الصيغة العربية الصوفية والإنسانية لتفسير الحياة.

شاركني هذا الحلم رفيقي وصديقي الثوري الملتزم، والمثقف الرفيع “حسن الرشيد الغبشاوي”، وكان ذلك في خواتيم الثمانينات من القرن المنصرم. ليأتي “فارس” وقتها، أعني محيي الدين فارس، ومن ثنايا المقرّر الدراسي للصف الثالث ليأخذنا إلى تخومٍ وجدانيّة هابشتْ فينا وتراً كليماً من خلال نصّه الشعري الماتع “ليل ولاجئة”:

( لا تنامي

الليل أوغل لا تنامي

الريح أطفأت السراج وقهقهت خلف الخيام

وهناك في قبو الحياة هناك في دنيا الخيام

تمضي الحياة بلا ابتسام

تمضي كزفرة مومس

ضاعت بأطواء الظلام

نام الوجود ولم تنامي

وما عادت فلسطين وحدها لاجئة، سيدي فارس، لقد اتسعت خيام القهر والمسغبة لتمتد من المحيط إلى الخليج، الخارطة التي كنا نريدها أنا وصديقي “الرشيد” إمبراطوريةً واحدة لرسالةٍ خالدة، انتهت أخيرًا لأمةٍ خاسرة ذات حسرة دائمة.

ولتصبح عندي التصوّرات والمرجعيات الفكرية مائعةً جدًّا، ليبتدع لي صديقي القاص “عبد الحفيظ مريود”، معبّرًا عن حالي وبابتسامةٍ غامزة، مسمّى “الكوشي التائه”، مستعيرًا عنوان كتابي الأخير.

عذرًا لهذه الخاطرة. أقول: كم كنتُ فرحًا يا أصدقائي وأنا أُجالس هكذا إنسانًا عينًا بعين، في منزله بحيّ الثورة بمدينة أم درمان، لصالح مجلة الإذاعة السودانية “هنا أم درمان”، التي كنتُ سكرتيرًا لتحريرها في العام 1999م.

وليس من السهل أن تتاح لك محاورة محيي الدين فارس، فالرجل له شروطه. طلب لي الشاي فقلت له: “لا أشربه”، ثم قال: “إذن القهوة؟”، فأجبته: “نحن أناس قهوتنا الكلام”. نظر إليّ مبتسمًا، ثم أردف قائلاً: “أتكتب الشعر يا ولدي؟”، فدسست عليه خوفًا من امتحانٍ أحرج فيه. فقال: “ستكتبه، ويكون لك شأنٌ عظيم… الآن هاتِ أسئلتك”.

فطرتُ فرحًا: أخيرًا سأخرج بحوار مع الفارس.

وكم كان الرجل بصيرًا شفيفًا، كأنّه “ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق”، كما قال الإمام علي بن أبي طالب في ابن عبّاس: “لله در ابن عباس، إنّه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.”

كان فارس، محيي الدين فارس، وقتها على صحة، يغظّ الدماغ، هزم مرض السكر بصداقةٍ معه.

سألته في خاتمة الحوار قائلاً: الكلمة عند شعراء التصوف تمتاز بحالة لا تُشابه كل ضروب الشعر، هل يرجع ذلك إلى أن هناك مناطق في الدماغ لا تفتح مغاليقها إلا للاستغراق الروحي؟

فأجاب وهو يُحدّق في مخياله:

( اللغة الصوفية خرجت من القاموسيّة اللغويّة إلى قاموسيّةٍ نفسيّةٍ وروحيّةٍ أخرى.

الكلمة في التصوف تأخذ معاني كثيرة لأنّها تُعبّر عن عالمٍ آخر بعيد عن الماديات، ومن خلال منظارٍ يرى الحياة مؤقتة، وكل نفسٍ ذائقة الموت.

هذا المصطلح، ولو سميناه مصطلحًا مجازًا، يعيشه بعمق الصوفيون.

والموت عند الصوفي جمالٌ لا بدّ منه لمعادلة الحياة.

والحياة المعنيّة هي الحياة الأخرى، التي عبّر عنها القرآن بكلمة “الساهرة”.

لذلك تأتي الكلمة عند المتصوّفة متفرّدة.

ثم أضاف: الشاعر “إقبال” وهو على فراش الموت كان يبتسم ويضحك مع كائناتٍ لا مرئيّة بعيدة، وكان سعيدًا لأنّه ينتقل من عالم المادة، ومن الوعاء الطيني الذي نلبسه، إلى الوعاء الذي لا نراه.

ثم قرأ عليّ لابن سينا قوله

🙁 هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ الْمَحَلِّ الْأَرْفَعِ

وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ

وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا

كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ

أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ

أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الْخَرَابِ الْبَلْقَـعِ

سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الْغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ

مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالْعُيُونِ الْهُجَّعِ

ثم أردف: لأن النفس تظن أن أفضل الحياة هي التي تعيشها على ظهر الدنيا، يخاطب الله رسوله: “وللآخرة خيرٌ لك من الأولى”، والناس تخاف من الموت. والموت دقيقة واحدة، فلا تخافوا.

تلك كانت آخر كلماته في آخر حوار لي معه، وبعدها انتقل أستاذنا الأديب لعالم “الساهرة”.

قلتُ لك: كان كابن عباس، ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق.

وها هو ذا يشرع سفنه للغياب الطويل، وقد نعى نفسه بعد أن بصّر بمدينته الوحشية في نصه الشعري الماتع “الجواد والريح:

( دعيني

فللبحر رائحةٌ مُنعشة

وقد حمحمتْ سفني للرحيل

وصفّقت الريحُ في الأشرعة

فهذه المدينة تأكل أبناءها

ثم تنسلّ

تقبع في الظلمة الموحشة

وللريح حضورٌ لافتٌ في النص الشعري عند “فارس القصيد”، لا تتّسع هذه المساحة للحكي عنه، أعني الريح.

سألتُ فارس يومها عن قصيدة النثر، هل ثمة علاقة بينها وبين الشعر العربي؟

أجابني بسرعة من يقرأ في لوحٍ محفوظ:” أنا كأحد الشعراء أرفضها، حتى لو تحدّثتُ عنها حديثًا طيبًا في بعض اللقاءات.

الشعر يمكن أن يكون قصيدةً في بيت.

الحلاج يقول:

ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال لهُ

إياك إياك أن تبتلّ بالماء

ثم قال: “اليمّ هي الدنيا، ومكتوفًا بالغرائز وأشياء كثيرة، وقال له لا تقع في الخطيئة.”

ثم أضاف: ما يُسمّى بقصيدة النثر كلام فارغ، إلا أنّ هناك نثرًا أقرب إلى الشعر، مثل ما يكتبه جمال الغيطاني، والقصيدة يمكن أن تكون بلغة نثرية وتكون أعمق بكثير من قصيدة مكتوبة باللغة العربية الموغلة في القاموسيّة.

نزار قبّاني مثلًا، قصائده من السهل الممتنع، قد يخيل للكثيرين أنها نثرية، لكنّه يفرض اللغة الشعبية ويعطيها قوة الشعر.

وقد يلجأ الشاعر إلى الغموض ليُواري ضعف ملكته الشعرية. ولكن هناك أعمالًا كبيرة لا يمكن إلا أن تكون غامضة، ويكمن سرّ خلودها في هذا الغموض، وهذه تكون على أيدي شعراء كبار جدًا، من أمثال جلال الدين الرومي، عمر الخيّام، ومحمود حسن إسماعيل، أوّل من دخل العقل الباطن بعصا اللاوعي، قبل كل الشعراء. فالقصيدة عنده غابةٌ مليئةٌ بالأسرار، يدخلها مغامر، وهو شاعر من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.

ومضيتُ في حواري مع “فارس القصيد” أسأله: كيف تولد القصيدة عندك؟

أجاب من فوره، وقد طرف ببصره إلى جنبٍ أيمن، لعلّه كتاب غيبٍ يمتح منه:” القصيدة تلد نفسها بنفسها.

القصيدة عندي تكتب نفسها من خلال “استوديو” داخل نفس الشاعر، مستخدمًا كل أدوات ثقافته الجمالية، بتوالدٍ يكسو جسد التجربة كجينات مكوّنة للبنية الأساسية للتجربة.

التوالد العشوائي في بناء القصيدة زخرفٌ لفظي.

وقال: أذكر أنني تناقشت مع صديقي بلند الحيدري أن القصيدة قبل أن تخرج، لا بد أن يراجعها الشاعر وحده، ليحذف الزوائد ويبقي على “الموسيقى النفسية”، بمعنى ألّا يجرفه الترف اللغوي الذي يهلكه.

وسألته قبل سؤال “جمال الموت” ذاك الأخير، عن كيف يرى حالة الشعر والشعراء السودانيين؟

نكس رأسه، ونظر إلى خيطٍ وحيد في طرف “العراقي”، يُرقّصه هواءٌ لا نحسّه، وأدار طاقيّته القماش البيضاء بيمناه قليلًا إلى جهة اليسار، وأجاب ببطء:

*”مواتٌ مُطلق وجفافٌ عريض*.

*لا لأنّهم غير مبدعين، بل لأن الحياة تعصرهم عصرًا*، وتأخذ أجمل أيامهم في صراعٍ من أجل العيش.

أنا حزين جدًّا، لأن الشعراء الشباب، حتى الموهوبين منهم، تجثم على آفاقهم ظلمات السحب.

مع ذلك، فأنا أحس أنهم سيجدون الوضع الطبيعي في قابل الأيام.

ولكنّنا اليوم نعيش في أسوأ العصور… عصرٍ يقتل مواهب المبدعين.

وأخيرًا، صديقي القارئ، انظر إلى قوة الحياة والعطاء بلا حدود عند “فارس القصيد”، أعني محيي الدين فارس، في قصيدته “أذرع الصفصاف

“: من نحن؟

نحن كنخلة خضراء في الوادي تُزفّ

تُعطي… وما بخلتْ

وكلُّ عطائها للناسِ وقفْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى