منوعات

أبية الريح تكتب: صديق عمر “إنسان يُغنّي”

سودان ستار

 

لا أميل كثيرا للاستماع لمغنيي الجيل الحالي، لا تقليلًا من اجتهادهم أو مكانتهم، ولكن لأن ذائقتي تنجذب لما يحمل شيئا من القِدم، من النضج، من العمق الصامت.

في أيام عصيبة واغتراب عامين أحسبه طويلا ..  وبين تقلبات الحنين الحاد، فتحت اليوتيوب بلا هدف متعبة من الضجيج.. فخطر لي أن أبحث عن أغنية كانت تراودني “اشتقت لي بلد المحنة”. لم أكن أظن أنني سأقع في هذا القدر من الدهشة.

ظهر صوته على الشاشة.. صديق عمر. بدا لي كأنني أسمعه لأول مرة غنّى بفرح ناعم .. بابتسامة واضحة دون تكلّف أو استعراض كأنه يُهدي صوته للهواء. في أدائه خفة متجذّرة و كأن روحه وُلدت في حضن البلد وترعرعت على المودة والبساطة.

توالت الأغنيات واحدة بعد الأخرى دون أن أشعر بمرور الوقت. كانت التجربة أقرب إلى الطواف حول فكرة أو الاستسلام لماء دافئ. هناك شجن في صوته يحرك شيئا مستتر يدفعك للتأمل أكثر مما يدفعك للبكاء. وهناك دفء يتسلّل نحوك بهدوء.

ما يلفت حقا أن أغلب أغنياته من كلماته وألحانه كأن الرجل لا يكتفي بالغناء و يكتب نفسه يلحن مزاجه يعبر عما لا يسعفه التعبير عنه بالكلام. وهذا ما يجعله أقرب .. أكثر حضور .. كأنك تسمع صوت إنسان.

صوته يطوف بالسودان من قرية صغيرة إلى حارة في أطراف الخرطوم .. إلى زقاق يعرفه الناس بالاسم. يغني للمحبوبة بعفّة لا استعراض فيها ولا مجاز زائد فقط صدق. وفي صدقه رجاء لا رجولة مفتعلة.

حين يغني فحتى اختياره للكلمات من اصدقاؤه الشعراء مميزة .. “ما بخلي هواها حاشا حتى لو صبحت مجوسة” لا يبدو أنه يتحدّى ولكنه يعبّر عن عمق التعلّق عن انعدام الفكاك من ما يحب.

في مقاطع كثيرة ينصح، يواسي، يحذّر، لا من علٍ، بل من محبة خالصة. لا يضع نفسه في مقام المعلم، يضعها في مقام الأخ. يسأل بقلق: “لي شنو لي عشمتها؟” ويطمئن بصدق “إن شاء الله يعرسك، ما يبقى زول وناس”.

يحاول باستمرار أن يرمّم التعب الجماعي.. أن يقول بطريقة غير مباشرة إن الخير لا يزال موجودا وإن السودان يستحق الحب، وإن الوطن شعور لا يُغادر.

حين يُغنّي “بنريد سودانا، ربنا شاهد، ما نتعالى، كلنا واحد” يُعلن ما يؤمن به بلا تزويق.

يُدهشك في بساطته.

وفي كل هذا لا يخفي ضعفه ويشاركه. في الاعتراف بالخوف في الشوق، في الفقد، في الإرباك …

“كترت الطلة بتمسخ خلق الله، خايف أمسخ ليك يا زينة الحلة”

وفي لهفة اللقاء…

“أصحابي القراب، وين ألاقيهم، مشتاق للقا وأسلم عليهم”

وفي ثقل الفراق…

“الفراق كيف يا أهلنا، قاسي وحراق…”

وفي لحظة عالية الصدق في ظل وطن يئن اختار أن يغني ليُطمئن. أغنية العودة .. الحنين .. العودة الممكنة رغم كل شيء بكلمات الشاعر عابدين الريح …

“بترجع الخرطوم حليوة، ويتملي النيل بالأغاني…”

ختاما:

ما دفعني للكتابة عن صديق عمر إحساسي العميق بأنه يحمل رسالة. بأنه يريد أن يقول شيئا، وأن يُحدث أثرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى