ثقافة وأدب

عبدالله الجبرة: صَفَق الحَسّكْنيت

سودان ستار

 

الوقت نهار قائظ ، من شهر أكتوبر ، الحقول نيران ودُخَْان ، آن أوان الموسم الزراعي . عبدالواحد ومِسينيح يجلسان تَحْتَ شجرة حَراز معرشة تلمع ثمارها الصفراء كأنها حلقان ذهب . بصق عبدالواحد السَفّة من شِفته السفلى وقال لي مِسينيح بصوت مليء بالغطرسة :” الواطة السنة دي داير تزّرعها شنو ؟؟ ” . رد على الفور وقال له :” مَحَْلب “. عبدالواحد هب واقفاً كمن رأى شيء مُريع وقال :” يازول إنت ماك واعي ؟؟ الناس دايرة تزّرع في الفول والحُمّبُص والكزّبرة ، تقول لي مَحَْلب ” ضحك مِسينيح بلذة عميقة كأنه غرز خنجر الغضب في أحشاء عبدالواحد :” يازول إنت عارف رَطُل المَحَْلب بي كم ؟؟ انتوا ناس مَطرّطشين ماعارفين مصالحكم . المَحْلب ده فيه مال أحمر :” . كان مِسينيح مزاوجاً ومطلاقاً ، كثير الثرثرة ، لكنه مجّذوب ونقي الفؤاد :” . ذات ليلة كانت البلدة هادئة لا تسمع فيها إلا نباح كلاب ضالّة ، أو هطرقات سكارى هم عما يختص يالحياةٍ ساهُون . كان الواحد منهم يضحك على رفيقه إذا لطّطّ في الشراب وثقل لسانه :” يازول كان واعي قول بَمّبر مرّيم رمى مرّيم رمية ” . وتنطلق ضحكات ماجِنة ، هق هق هق ….. يرتعش لها ستار الليل . بدأ ريح أهّوج يَهِبُ من جهة القبلة . الرعد والبرق بينهما قبلات مشّرومة ، احترقت السماء كأنها غطاء الحجيم . البرق مِثل سوط من نار ، يلتف من خصر السماء نازلاً لأسّفل الأفق كحِزامٍ من نار ؛ فتسيل دموع مِسينيح بغزارة بالغة . يتأمل البِنيّة وهي تَستحّضر وتلفظ آخر أنفاسها . بينما تَتَمخط زوجته ويرتفع شهيق نحيبها إلى بُكاء حاد :” كُرَ عليّ يا بِنيّتي ، الليلة أقَبِل وين !! . قُلت لها ماتمشي تلمي صفق الحَسّكنيت ، قالوا فيه أبّ دفان :” . البِنيّة ذات الإحدى عشر ربيعاً ، مسّكونة بتسليح الأفكار ، لم تتكمن من إسَتِيعاب فكرة التوسُع الدماغي قبل التطاول في بنيان الأحلام الأسمنتية بدلاً من الجالوص . الذكاء الحاد جعلها تقرأ الكف من صفق الحَسّكنيت ، حتى توارات أمانيها خلف سراب شمهاروش . ويصيح مِسينيح وهو مُمُسكاً بجبهة البِنيّة والناس ملتفين حوله :” نوديها المستشفى نسفرها شندي … الليل إتَالتَ وحافلة شندي لسة ماجاءت !@:” . تفرقت السَحُب وأصبحت السماء صافية لا يشوبها كدر . في هذه اللحظة تخرج العفاريت من قوز الكِمير ، حُفاة عُراة قاماتهم قدر قامة الأوتاد . أشاحت البِنيّة بوجهها كأنها صحوت من غيبوبتها ركضت صوّب طيف العفاريت ، ثم أغمضت عينيها غامت وسط غمامة غريبة وظلّت تغرق في داخلها حتى اختفت عن الأنظار . شيء من السحر حول البلدة إلى نور مُشغ شَفّاف جداً . فإذا بصوت يأتي من بعيد يذيب الحديد ويلين الصخر ، فتتحول العفاريت إلى شكل غريب يتدلى على هيّأة قوس قُزح ، ثم تهرب بعيداً مِن أعَيُن البِنيّة :” الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم . مرت سنين عُجاف كئيبة على مِسينيح . وذات يوم بمحض الصُدفة ، سمع أُناس يتحدثون عن البِنيّة ، يقسم أحدهم انه رآها تجني في ثمار الحَسّكنيت فصاح بحزن وهلع :” إنتو مجانين ياناس دفتنها بي أيدي … بنتي بقت بعاتي ولا شنو . الله قادر يحي العظام وهي رميم ” . كان مِسينيح يقضي جُلّ ليله في التهام صفق الحَسّكنيت لكي يتذكر طعم وجودها ، وغالباً تجده زوجته في الصباح غارقاً في بُحيّرة من الحُزن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى