
مقدمة
في خضم زحام الأصوات التي تناولت الشأن الإيراني خلال العقود الماضية، تبرز تحليلات الإخوان الجمهوريين بوصفها شهادة استشرافية نادرة، تجاوزت زمانها وتفوقت على كثير من القراءات السائدة. فبينما كانت إيران تحتفل بـ”الثورة الإسلامية” عام ١٩٧٩، ويرى فيها بعض الإسلاميين نموذجًا يُحتذى، كان الأستاذ محمود محمد طه يقرأ ما وراء الشعارات، ويحلل بنية الخطاب الديني الذي قاد تلك الثورة، منبّهًا إلى أن مسارها سيفضي إلى حكم سلطوي دموي منغلق، يتوسل بالدين لتمكين الطغيان.
ظهرت الجذور الفكرية للنقد الجمهوري للثورة الإيرانية مبكرًا في كتاباتهم ومحاضراتهم، فلم يخفِ الجمهوريون – وعلى رأسهم الأستاذ محمود – موقفهم الرافض لما سُمّي آنذاك بـ”الثورات الإسلامية” التي تقودها جماعات سنية أو شيعية ذات فهم حرفي وتقليدي للنصوص الدينية. فقد كانوا يرون أن التوظيف السياسي للدين، في سياق يفتقر إلى الحرية الفردية والتعددية الفكرية، سيقود حتمًا إلى الكهنوت والاستبداد، وهذا ما تحقق فعليًا في التجربة الإيرانية.
قال الأستاذ محمود في أكثر من موضع إن “الفهم المتجدد للإسلام”، كرسالة حرية وسلام وعدالة، لا يمكن أن ينهض في بيئة يتحكم فيها رجال الدين في تفاصيل الحكم، ويجعلون من النصوص أدوات قمع لا تحرير.
فقدّم الجمهوريون تحذيرات مبكرة أوضحوا فيها أن ما بعد الشاه ليس بالضرورة حرية، وذلك بعد احتفال الكثيرين في أعقاب سقوط الشاه بزوال “الاستبداد الملكي”، بينما وقف الجمهوريون موقفًا نقديًا مزدوجًا: نعم، سقط الشاه، لكن الخطر الأعظم يكمن في صعود “الاستبداد باسم الدين”. وهكذا تنبأ الأستاذ محمود بأن إيران ستنتقل من طغيان الشاه إلى طغيان ولاية الفقيه، الذي سيستخدم الدين غطاءً لتصفية الخصوم، وسجن المعارضين، وتقييد الحريات، وشن الحروب خارج حدود الدولة باسم العقيدة والمذهب.
وقد أثبتت الأيام صدق هذا التحليل: حروب الوكالة التي تخوضها إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأزمة الداخل الإيراني بين جيل شاب متطلع إلى الحرية وسلطة دينية تقمع النساء وتمنع الحريات الثقافية، هي نتائج مباشرة لهذا المسار الذي حذّر منه الجمهوريون مبكرًا، حين نبّهوا إلى أن أزمة الدين، حين تتحول إلى سلطة، تصنع الطغيان باسم القداسة.
أحد أعمدة الفكر الجمهوري أن “الدين في أصله دعوة للحرية”، وأن “تديين السياسة”، حين يُفهم كتحكم في رقاب الناس، يحوّل الدين إلى أداة ظلم. وقد عبّر الجمهوريون عن ذلك بكل الوسائل:
“إن الشريعة التي يريدونها اليوم لا تصلح لأن تُحكم بها دولة حديثة، لأنها قامت في بيئة مجتمعية بدائية، وقد جاءت الرسالة الثانية من الإسلام لتؤسس لشريعة جديدة، تقوم على الحرية والمساواة الكاملة بين الرجال والنساء، والمواطنة دون تمييز.”
وعليه، فقد رفض الجمهوريون التجربة الإيرانية لا لأنها شيعية، بل لأنها أعادت إنتاج خطاب العنف باسم الإسلام، متناسية جوهر الرسالة النبوية في مقاصدها العليا: الرحمة، والعدل، والحرية.
ولتبيان صدق تنبؤات الجمهوريين وربطها بالحاضر المأزوم، فها نحن اليوم، نقف متأملين صدى النبوءة التي تناولها الجمهوريون منذ قرابة نصف قرن في حاضرنا. فها نحن، في عام ٢٠٢٥، نرى إيران تقف أمام أكثر مراحلها حرجًا: النظام يعيش عزلة دولية، وأزمات اقتصادية خانقة، واضطرابات اجتماعية عميقة، وصدامًا مستمرًا بين سلطة دينية شائخة وجيل جديد لا يؤمن بالخوف ولا بالشعارات القديمة. لقد انقلب الحلم الثوري إلى كابوس قمعي، بل إن الشعارات ذاتها التي رفعتها الثورة صارت اليوم مادة للسخرية في الشوارع الإيرانية.
والأدهى من ذلك، ما نعيشه هذه الأيام من تطورات خطيرة، أبرزها الحرب المفتوحة التي تشنها إسرائيل على إيران: اغتيالات ممنهجة لقادة الحرس الثوري، وتدمير للبنية التحتية النووية، وهجمات نوعية داخل العمق الإيراني. في المقابل، يتجلى عجز إيران الفاضح عن الرد القوي والردع الحقيقي، رغم كل تهديداتها الطويلة وشعارات “محور المقاومة” التي استُهلكت حتى أصبحت محط تندُّر حتى في أوساط حلفائها.
باتت إيران اليوم، في نظر كثير من الشعوب، لا تمثل إلا نموذجًا منهارًا لسلطة دينية فقدت أدوات الرد، ومصداقية الدفاع، بعد أن استنزفت مواردها في حروب بالوكالة، دون أن تستطيع حماية نفسها من الضربات المباشرة. لقد أصبحت إيران – رغم قوتها العسكرية المزعومة – مادة للتهكم، ومصدرًا للشفقة، بعد أن ظهر جليًا عجزها التام أمام إسرائيل عن فعل أي شيء يُحسب لها.
هذا المصير، الذي رآه الأستاذ محمود بوضوح قبل أربعين عامًا، هو برهان ساطع على عمق تحليله، وصدق مشروعه الفكري في التأسيس لإسلام حر، عاقل، إنساني، غير طامع في سلطة ولا مال.
خاتمة
إن هذا المقال بمثابة دعوة للتأمل. فـتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما فيها من أخطاء مروعة في فهم الدين وتطبيقه، تضعنا أمام مسؤولية مراجعة مشروع “الإسلام السياسي”. وما أشد الحاجة اليوم إلى إعادة قراءة ما كتبه الأستاذ محمود محمد طه، لا بوصفه معارضًا للنماذج الإسلامية الفاشلة فحسب، بل كصاحب مشروع متكامل لتحرير الإسلام من قبضة السياسة والكهنوت.
لقد كان الأستاذ محمود ينظر إلى المستقبل بعين العقل والقلب، ورأى ما لم يره كثير من علماء الدين ومثقفي الأمة. وما من وقت أنسب من هذا، لنعود إلى تلك الرؤية، لننقذ ما تبقى من أمل في أن يكون الإسلام، يومًا، طريقًا نحو الحرية لا سجنًا باسم الشريعة.
المصادر:
١. كتب ومحاضرات الأستاذ محمود محمد طه – موقع الفكرة الجمهورية www.alfikra.org
٢. تسجيلات نادرة لمحاضرات الجمهوريين في ثمانينيات القرن الماضي.
٣. تحليلات معاصرة عن فشل مشروع ولاية الفقيه في إيران – مراكز بحثية دولية.
٤. تقارير حقوق الإنسان عن انتهاكات النظام الإيراني ضد النساء والمعارضين.
٥. قراءات مقارنة متعددة بين الفكرة الجمهورية والإسلام السياسي.