الجسدُ في فِكْرِ نيتش
[لذلك كان لا بدَّ من التَّعبير عن روح الطَّبيعة رمزيَّاً؛ وقد احتاج ذلك إلى عالَمٍ جديدٍ من الرُّموز، وقبلَ كلِّ شيءٍ إلى رمزيَّةِ الجسد بأكملها، لا إلى رمزيَّة الفمِ، والوجه، والكلمة فحسب، ولكن إلى الإيماء الكلِّيِّ الذي يحرِّكُ على نحوٍ إيقاعيٍّ جميع الأعضاءِ عبرَ الرَّقص].
التَّصوُّرُ النِّيتشويُّ للجسد في الفلسفة
إنَّ الجسدَ هو أحدُ الخيوطِ المشتركةِ والموضوعاتِ المتكرِّرةِ في أعمال نيتشه. وقد طرحَ نيتشه هذه المسألة في مقدِّمة كتابه العِلم المرِح، “… كثيراً ما سألتُ نفسي إذا ما كانت الفلسفةُ، في المُجمَلِ وحتَّى اليوم، تأويلاً للجسد وفي الوقتِ نفسه سوءَ فهمٍ للجسد”. وهو بذلك إنَّما يُعرِضُ عن المثاليَّةِ ويؤيِّدُ سيادةَ الجسد كمصدَرٍ لكلِّ تأويل.
إنَّه يخالفُ ديكارت، إذْ يختارُ كنقطةِ انطلاقٍ لتأويلاتِهِ الفكرةَ التي هي الجسد، لا الفكرةَ التي هي الرُّوح؛ يختارُ من الإنسان الجزءَ الذي نعرفه جيِّداً. أنا أعرفُ جسدي أفضلَ ممَّا أعرفُ روحي. وإلى جانب ذلك، فإنَّه لا يفصلُ الرُّوحَ عن الجسد، بل يرى أنَّهما وحدةٌ واحدة، جزآن متواشجان لا ينفصلان. ومع ذلك، هذا التَّعارضُ مع ديكارت ليس مطلقاً؛ فكما ديكارت، كذلك نيتشه يرى أنَّه لا يمكننا أن نمتلك معرفةً إلَّا عن عالم مشاعرنا وتمثُّلاتنا. عندَ نيتشه، الجسدُ هو قبلَ كلِّ شيءٍ “جسدٌ متمرِّسٌ بالحياة” بدلاً من كونه “جسداً خاضعاً للمعرفة العلميَّة”. وكما يرى كانط، يرى نيتشه أيضاً أنَّ كلَّ معرفةٍ إنَّما تصدرُ عن الإحساس وتقومُ عليه. ولكن، على عكس كانط، يعتقد نيتشه، مثلما شوبنهاور، أنَّ أشكالَ فهمنا للحياة تصدرُ، أوَّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ، عن منظومتنا الفسيولوجيَّة (وعن وظائفها: التَّغذية، والتَّناسل)، في حين أنَّ الوظائف التي ننظرُ إليها عادةً على أنَّها سامية (وظيفة الفِكر) ليست سوى أشكالٍ مُشتقَّة.
إنَّنا تلقاءَ شكلٍ من الحسِّيَّة، ولكن ما الذي يقصده نيتشه بالحسِّيَّة؟ إنَّه لا يريدُ الانزلاقَ في ذلك التَّضادِّ التقليديِّ: حقيقة/ مظهر. بل إنَّه في الواقع يتخطَّاه ويتفوَّق عليه؛ فوفقاً له، المظهرُ هو الحقيقة. “أنا لا أضعُ “المظهرَ” على تضادٍّ مع “الحقيقة”، بل على العكس، أعتقدُ أنَّ المظهرَ هو الحقيقة”. [شذراتٌ منشورةٌ بعد وفاته (1884-1885)]. لا يوجد كائنٌ يختبئ وراءَ مظهره، كما يحدث في التَّمييز الكانطيِّ نومينُن/ فينومينُن(1). الكينونةُ ظهورٌ، أو بالأحرى هي الظُّهور.
حتَّى إنَّه ليس ثمَّة تفضيلٌ معيَّنٌ لأيٍّ من الحواسِّ الخمس على الأخرى، فجميعها موضوعةٌ على نفس المستوى. لقد كتبَ، على سبيلِ الذِّكر، في هذا هو الإنسان (“لِمَ أنا قدَرٌ”): “عبقريَّتي هي في أنفي”. إنَّه المعنى الإغريقيُّ لكلمةِ “Noein” كما جاء في المقطع الثَّامن من مستهلِّ قصيدة بارمنيدس عن الوجود،(2) المعنى الذي أحسن هانز جورج غادامير تفسيره، فبعد توقُّفِ هذا مليَّاً عندَ المعنى الأكثر ملاءمةً للمصطلَح الذي كان قد ترجمَه ابتداءً وفي أكثر الأحيان إلى “تفكيرٍ” أو “فِكْرٍ” عاد وترجمَه بطريقةٍ أصيلةٍ إلى تعبيرٍ مؤدَّاه “هنا يوجدُ شيءٌ”، والذي يعني قدرة الكائن على التَّجلِّي في لحظةٍ آنيَّةٍ فريدة، كما عندما يتحسَّسُ أحدُهم رائحةَ شيءٍ بفتحتَي الأنف؛ وبالتَّالي، عندما يقول نيتشه إنَّ عبقريَّته هي في أنفه، فكأنَّه يقول إنَّه موجودٌ هنا، في هذه اللحظة، وبطريقةٍ فوريَّةٍ وطبيعيَّةٍ، موجودٌ كإحساسٍ وكإدراكٍ حسِّيٍّ. ومع ذلك، فلدى نيتشه تفضيلٌ شخصيٌّ، تفضيلُهُ لحاسَّةِ السَّمع، فهي الحاسَّةُ التي تسمحُ بولوجِ الموسيقى، ونيتشه يعبدُ الموسيقى. وفي الواقع، الجسدُ كلُّه ينخرطُ على نحوٍ متناغمٍ، فما من حاسَّةٍ تسودُ على أخرى خلافاً لما نقلَه لنا تاريخُ الفلسفة عندما رفعَ، على وجه الخصوص، الرُّؤيةَ امتيازاً على سواها (لاحظْ ذلك عندَ أفلاطون، الفكرة = الرُّؤية، من الجذر اليونانيِّ القديم “id”).
من كلِّ هذا باتَ من الواضح الآن لماذا يقدِّرُ نيتشه فلاسفة ما قبل سقراط: الأمرُ يتعلَّق بثقافةٍ يونانيَّةٍ معاديةٍ جوهريَّاً للمثاليَّةِ وتعترف بأولويَّةِ الجسد. كان قد كتبَ، بنبرةٍ قاسيةٍ للغايةِ، في غسقِ الأوثان (“تسكُّعاتِ رجُلٍ غير موافقٍ للعصر”، 47): “إنَّه لَمن الأهمِّيَّةِ بمكانٍ بالنِّسبة إلى مصير شعبٍ، وإلى مصير الإنسانيَّة أن تبدأ التَّربيةُ الثَّقافيَّةُ من الموقع الصَّحيح؛ – لا من “الرُّوح” (كما كان يفعلُ المعتقَدُ الخرافيُّ للقساوسةِ وأشباه القساوسة): الموقعُ الصَّحيحُ هو الجسد، المظهرُ الجسديُّ، ورعايتُه، وحالته الفسيولوجيَّة، والبقيَّةُ تأتي من تلقاء نفسها…