عزيز الدودو يكتب: هل كان عبد الناصر “عميلًا ” أم زعيمًا؟ قراءة في تسجيل صوتي قديم
سودان ستار

عادت إلى الواجهة الإعلامية مؤخرًا قضية التسجيل الصوتي المنسوب للقاء جمع بين الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في أغسطس من عام 1970، أي قبل أسابيع قليلة من وفاة عبد الناصر المفاجئة في سبتمبر من العام نفسه. هذا التسريب أثار عاصفة من ردود الفعل المتباينة في الأوساط العربية، حيث انقسم المراقبون بين من يرى فيه تبريرًا لمواقف عبد الناصر، ومن يعتبره دليلًا على تناقض خطابه القومي الوحدوي مع حقيقة مواقفه.
بالنسبة لأنصار عبد الناصر، الذين يرونه رمزًا للوحدة العربية والمدافع الصلب عن القضية الفلسطينية، فإن هذا التسجيل يمثل صدمة. كيف يمكن لزعيم لطالما تغنى بتحرير فلسطين ووحدة الأمة أن يظهر في هذا التسجيل بمظهر المستسلم والمنهزم، بل ويصف نفسه بذلك صراحة؟ وكيف يمكن تفسير دعوته للأنظمة الثورية آنذاك، مثل نظام القذافي وصدام حسين ونظام اليمن الجنوبي، حيث قال لهم : “حلّوا عنا بقى” عندما طالبوه بالمضي قدمًا في طريق الحرب؟
في المقابل، يرى البعض الآخر في هذا التسجيل وجهًا آخر لعبد الناصر، وجهًا واقعيًا وعقلانيًا أدرك حجم الكارثة التي حلت بمصر والأمة العربية بعد نكسة عام 1967. فمصر، الخارجة من هزيمة ساحقة ومن حرب استنزاف استنزفت مواردها، كانت في موقف لا تحسد عليه في مواجهة عدو مدعوم بقوة من قوى عظمى. في ظل هذه الظروف، يصبح الرهان على الحل السلمي، وإن كان مؤلمًا، خيارًا مفهومًا. ربما كان عبد الناصر يرى أن إنقاذ سيناء واستعادة الأرض المصرية المحتلة يمثل أولوية قصوى، حتى لو كان ثمن ذلك تقديم تنازلات مؤلمة في القضية الفلسطينية.
هنا يبرز سؤال شائك: هل كان عبد الناصر يسعى حقًا للتضحية بالقضية الفلسطينية؟ أم أنه كان يحاول دفع العرب إلى تبني مقاربة أكثر واقعية للخروج بأقل الخسائر الممكنة، حتى لو تضمن ذلك الاعتراف بإسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية، وهو ما يرفضه قطاع واسع من العرب بشدة؟ هذا الجدال يفتح الباب لتأويلات دينية وسياسية للقضية الفلسطينية، وهو موضوع بالغ الحساسية والتعقيد.
يبقى التساؤل الأهم: لماذا يخرج هذا التسجيل إلى العلن في هذا التوقيت بالذات؟ تزامن التسريب مع زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي إلى المنطقة، مما يثير الشكوك حول وجود محاولة للتأثير على الرأي العام العربي وتهيئة الأجواء لقبول “إملاءات جديدة” أو خطوات نحو التطبيع مع إسرائيل. إن إثارة ملفات قديمة تتعلق بتنازلات تاريخية قد يكون جزءًا من هذه الاستراتيجية الإعلامية.
وعند تحليل المستفيد من هذا التسريب، يبرز اسم النظام المصري الحالي. فكون التسجيل يخرج من مكتبة الإسكندرية بواسطة نجل جمال عبد الناصر نفسه، يضعف من حجج المشككين في صحته. ويبدو أن الهدف من التسريب، كما يراه البعض، هو محاولة تبرئة ساحة النظام الحالي من أي خطوات مستقبلية نحو التطبيع، من خلال القول: “إذا كان زعيمكم الخالد عبد الناصر قد قدم تنازلات في الماضي، فما العيب في أن نسير على خطاه؟”.
في الختام، يظل التسجيل الصوتي المنسوب لعبد الناصر والقذافي وثيقة تاريخية قابلة لتفسيرات متعددة. هل يكشف عن “الوجه الخفي” لزعيم لطالما تم تقديمه كبطل قومي؟ أم أنه يمثل شهادة على الواقعية السياسية الصعبة التي واجهها في فترة عصيبة من تاريخ الأمة العربية؟ الإجابة على هذا السؤال ستظل محل جدل ونقاش مستمر.