ثقافة وأدب

عزيز الدود – يا لها من ليلة! يا لها من ذكرى لا تُنسى!  

سودان ستار

كأني قد بلغت مراقي الفراديس “حيث لا

_____________________

 

في أحد أيام مايو، اصطحبتني ابنة عمي من قريتنا “عيال أمين” – الواقعة في الركن الجنوبي الشرقي لولاية شمال دارفور – إلى القرية المجاورة حيث تقيم مع عائلتها. وصلنا بعد صلاة المغرب، فاستقبلتنا والدتها بحفاوةٍ دافئة، وقدمت لنا أطيب الطعام وألطف الكلام.

 

كنت وقتها لم أتجاوز السادسة من عمري، لكن تفاصيل تلك الرحلة لا تزال عالقةً في ذاكرتي كأنها حدثت البارحة. بعد انتهاء مراسم الضيافة، سمحت لنا عمتي بزيارة جيران القرية، وهي قرية صغيرة لا يسكنها إلا أبناء عمومةٍ يجمعهم جدٌ واحد.

 

خرجنا نتجول بين البيوت، ثم عدنا إلى الميدان الواسع الذي يطل عليه بيت عمتي، بالقرب من “الديوان الكبير” الذي كان لا يخلو من الضيوف والعابرين، خاصةً العمالة الموسمية القادمة من “دار الريح”.

 

قالت لي ابنة عمي: “هيا نلعب تحت ضوء القمر مع الصبيان!” فوافقتُ على الفور. كانت تكبرني بثلاث سنوات، فاعتبرتها مرشدتي في تلك اللحظة، خاصةً وأني غريب عن القرية.

 

كنا من أوائل الوافدين إلى الميدان المحاط بأعشاب “النادا” الطويلة. وما إن سمع الأطفال أصواتنا حتى أسرعوا إلينا. رمت ابنة عمي العَظْم (في لعبة “شليل”) وقالت: “من يمسك العظم يلعب!”

لكني لم أهتم باللعبة، فقد شُدت بفتاةٍ في عمري ترتدي فستانًا مزركشًا وطرحةً ملونة، تتحرك بخفةٍ بين الأطفال كغزالةٍ بريئة. بشرتها السمراء الناعمة تتلألأ تحت ضوء القمر – الذي كان بدرًا في ليلة الرابعة عشر – وجذبتني براءتها ورشاقتها.

لم أعرف وقتها ما هذا الشعور الذي انتابني فجأةً، كأنه نبضةٌ غامضةٌ دفعتني لاكتشاف عالمٍ جديد، عالم الأنوثة بكل ما تحمله من سحرٍ لا علاقة له بالمظاهر الجسدية، بل بأعمق من ذلك بكثير. شعرتُ باكتمالٍ غريب، كأنني ألمس الجنة بعينٍ لم ترَ، وأذنٍ لم تسمع، وقلبٍ لم يخطر له ببال!

 

كانت لحظةً سرياليةً توقفت عندها الذكريات. لا أذكر كيف انتهت تلك الليلة، ولا متى عدنا، ولا كيف كانت الأيام بعدها. كل ما أعرفه أن تلك الصورة لم تفارق مخيلتي: الفتاة السمراء بضفائرها المنسدلة وضحكتها التي تدوي في أذني، وهي تثب كالفراشة تحت ضوء القمر.

 

هل كان ذلك حبًا؟

 

إن كان ما شعرتُ به حبًا، فلماذا لم يكرره الزمن مع أي فتاةٍ أخرى؟ حتى معها نفسها، حين قابلتها مراتٍ عديدة بعد ذلك، لم يعد ذلك الإحساس. بل كنتُ أرتعب من مواجهتها، ولم أجرؤ على الاقتراب منها إلا بعد سنوات، رغم قرابتنا وقرب المسافة بيننا.

كل ما بقي هو ذاك المشهد: ضوء القمر، ضحكات الأطفال، وهي تتألق كنجمةٍ سقطت من السماء. ربما كانت ذكراها لعنةً جعلتني أعيش في عزلةٍ حتى بعد أن تزوجت هي وأنجبت، ثم ترملت وتزوجت مرةً أخرى، بينما بقيتُ كما أنا – عالقًا في ليلةٍ من الماضي، لا أعرف تفسيرًا لها ولا خلاصًا منها.

ليلةٌ لا تشبهها ليالٍ…ولا نظير لها على الإطلاق!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى