في عالمٍ مضطربٍ تتنازع الشعوب فيه بين شغف الحرية وخوف الفوضى، يطلّ علينا كتاب «الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية» للمفكرين دارون أسيموغلو، التركي الجنسية من أصلٍ أرمني أستاذ الاقتصاد السياسي بمعهد MIT، وجيمس روبنسون، البريطاني الجنسية أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة شيكاغو، ليقدما رؤية عميقة حول سؤالٍ جوهري: كيف يمكن للدولة أن تكون قوية بما يكفي لحماية مواطنيها، لكنها مقيدة بما يكفي حتى لا تتحول إلى جلادٍ لهم؟ إنها معادلة دقيقة لا تُحل بالقوانين وحدها، بل بانسجامٍ متواصل بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والناس، بين النظام والحرية.
يرى الكاتبان أن مصير الحرية لا يسير في طريقٍ مستقيم، بل عبر ممرٍ ضيقٍ ومتعرج؛ تميل الشعوب خارجه بسهولة، نحو الاستبداد إذا اشتدت قبضة الدولة، أو نحو الفوضى إذا انهارت مؤسساتها. فالمجتمعات ذات الدولة الضعيفة تُبتلعها الميليشيات والفساد، وتلك التي تملك دولة قوية بلا قيود تنزلق نحو الدكتاتورية. وحدها الدول التي تتقن فن التوازن بين قوة الدولة ووعي المجتمع، قادرة على الحفاظ على حريتها واستقرارها.
الممر الضيق لا يُفتح مرة واحدة، بل يُعاد اكتشافه مع كل جيل. إنه نضالٌ يومي يبدأ حين يطالب الناس بحقهم في المشاركة، ويستمر حين يدركون أن الحرية لا تُمارس بالصراخ وحده، بل ببناء مؤسسات تحميها من الغزاة الداخليين قبل الخارجيين. الديمقراطية، في هذا السياق، ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة دائمة لصون التوازن بين السلطة والحرية.
وتُظهر تجارب الأمم الناجحة أن طريق الحرية لا يمر عبر الهدم أو الثورة المستمرة، بل عبر بناء مؤسسات متوازنة تُقيد السلطة وتحمي المجتمع في آنٍ واحد. فبريطانيا رسخت هذا التوازن على مدى قرون من الكبح المتبادل بين الملك والبرلمان، والولايات المتحدة صانت حريتها بتوزيع السلطات، بينما جعلت اليابان والدول الإسكندنافية من الثقة والشفافية أساسًا لاستقرارها. وتُقدّم هذه التجارب دروسًا ثمينة للسودان: أن الخروج من الفوضى لا يكون بإسقاط الدولة، بل بإصلاحها، وأن مقاومة الاستبداد لا تعني تفكيك النظام، بل إعادة بنائه على أسس العدالة والمساءلة. فالسودان لن يجد طريقه إلى الممر الضيق إلا حين تتقوّى مؤسساته بالقانون، ويتقوّى مجتمعه بالوعي.
وحين نقرأ «الممر الضيق» بعينٍ سودانية، يبدو وكأنه يروي حكاية السودان الحديث منذ استقلاله عام 1956. فبين الحكم العسكري والمدني، ظل السودان يتأرجح بين طرفي الممر: ففي العهود العسكرية كانت الدولة قوية لكنها خانقة، تصادر الحريات وتُكمم الأفواه باسم النظام. وفي فترات الحكم المدني، كانت الحرية حاضرة، لكن بلا مؤسساتٍ تحميها، فتحولت الديمقراطية إلى فوضى من الشعارات والمصالح الحزبية. وهكذا ضاع التوازن المطلوب، فغابت الدولة عندما حضر الصراع، وغابت الحرية عندما حضرت القبضة الأمنية.
يقول أسيموغلو وروبنسون إن الحرية لا تُبنى بالنوايا الحسنة أو الخطب الثورية، بل عبر “شراكة مستمرة” بين شريكين متيقظين: دولة تعرف حدود سلطتها، ومجتمع يدرك حدود حريته. وهذا ما فشل السودان في تحقيقه حتى الآن؛ فالدولة لم تتعلم أن السلطة ليست مطلقة، والمجتمع لم يتعلم أن الحرية لا تعني الفوضى. وبين الطرفين، ضاع الممر الضيق واتسع الطريق أمام الاستبداد والانهيار.
اليوم، في ظل تنازع القوى المسلحة على المدن، وتصارع المؤسسات على الشرعية، يبدو السودان نموذجًا مؤلمًا لما يحدث حين يغيب هذا التوازن. فالدولة عاجزة عن حماية المواطنين، والمجتمع المدني – رغم حيويته – يفتقر للأدوات التي تمكنه من تقييد السلطة أو إعادة بنائها. وهكذا يسود فراغ قاتل: لا دولة ولا حرية. لكن الكتاب يذكّرنا بأن الأمل لا يموت، فالممر الضيق – رغم وعورته – لا يزال موجودًا. إنه الطريق الوحيد نحو مستقبل تُمارس فيه السلطة بمسؤولية وتُصان فيه الحرية بانضباط.
ويؤكد الكاتبان أن المجتمعات لا تدخل هذا الممر صدفة، بل بدفعٍ من أجيالٍ تؤمن بأن بناء المؤسسات أهم من بناء الزعماء، وأن قوة القانون أقدس من قوة البندقية. وهنا تكمن فرصة السودان، رغم الجراح العميقة. ففي شوارع الخرطوم وأزقة بورتسودان وأحياء أم درمان وحواري الفاشر وسهول كردفان ما زالت أصواتٌ تؤمن بأن الدولة يمكن أن تكون عادلة إذا وُجدت مؤسسات تحاسبها، وأن الحرية يمكن أن تزدهر إذا وُجد مجتمع يحرسها.
لقد أخطأ السودان حين بحث دائمًا عن المنقذ – زعيمًا كان أم جيشًا أم حزبًا – بدل أن يبحث عن العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بالمجتمع فالحرية ليست هبةً من الحاكم، بل ثمرة صراعٍ واعٍ يحمي فيه الناس دولتهم من تغوّلها، ويحمي الحاكم سلطته من الانهيار.
إن «الممر الضيق» ليس كتابًا عن الماضي بقدر ما هو تحذيرٌ للمستقبل. فهو يقول للسودانيين – ولشعوب المنطقة كلها – إن الطريق إلى الحرية لا يُشق بإسقاط الأنظمة وحدها، بل ببناء مؤسساتٍ تضمن ألا يولد استبدادٌ جديد من رحم الفوضى القديمة. فكل ثورةٍ بلا مؤسساتٍ تُعيد إنتاج القيود بأسماءٍ جديدة، وكل دولةٍ بلا رقابةٍ تُنجب طغيانًا وإن رفعت شعار السلام والحرية والعدالة.
ورغم أن الطريق طويلٌ وشاق، فإن السودان لا يزال يملك فرصة لاجتياز الممر الضيق ، إن أدرك أن الحرية لا تعني الهدم، وأن النظام لا يعني القمع، وأن الوطن لا يُبنى بالولاءات الضيقة، بل بالتوازن العادل بين الدولة والمجتمع. حينها فقط، يمكن للسودان أن يرقص رقصة الحرية داخل ممره الضيق دون أن يسقط يمينًا في هاوية الطغيان أو يسارًا في متاهة الفوضى.
في النهاية، يعلّمنا هذا الكتاب أن الحرية ليست محطة نبلغها، بل مسارٌ نسير فيه كل يوم. طريقٌ محفوف بالمخاطر من الجانبين، لكنه السبيل الوحيد إلى قيام دولةٍ عادلةٍ وشعبٍ حرٍ ووطنٍ قادرٍ على أن يقول للعالم بثقة: لقد اخترنا أن نمضي في الطريق الصحيح ونجتاز المضيق ، مهما كان الثمن.