
هيلانة .. نص يتجول في هيئة امرأة. تدخل الكتابة بكبرياء العارفة. ترى في شخوصها أن نفسها تمتد في كل فاصلة ونقطة، حتى ليصعب على القارئ أن يفر من لعنتها.
أنثى مشتهاة في لغتها، مُقدسة في نزيفها، مغرورة بجرحها، كالمرآة تُصر على فضح الوجوه مهما حاولت تجميلها.
تكتب واللغة حين تتلبسها، تصبح كائنًا يتنفس، يتدلى، يتعطش، ويجر القارئ إلى سريرها السري، حيث تختلط الحقيقة بالكذب، والعهر بالطهر، واليقين بالريبة.
تعلق القارئ على أسلاكها المشدودة، ثم تتركه يتأرجح بين اللذة والخذلان. شخصياتها تخونها وتتمرد عليها . . في غرورها، تعرف أن تمرّدها يزيد من سطوتها.
تعرف الحدود بين النص والاعتراف.
أن تقول: تبًّا لك يا هيلانة، فهذا يعني أنها وصلت، وأنها حفرت اسمها في ذاكرتك، بوصفها أثرًا لا يُمحى. هنا نتحدث عن كيان يتغذّى على الكتابة، عن امرأة تُمارس على القارئ طقسًا من السحر واللعنة، وتتركه عاريًا أمام أسئلته الخاصة.
هذا الحوار نافذة على ذاتها التي تتماهى مع النصوص حتى تصير هي والرواية شيئًا واحدًا.
أنثى تقف على حدود الأسطورة والفضيحة، القداسة والدنس، الجمال والخراب… وتبتسم في النهاية بثقة.
حوار أبية الريح
– أهلا هيلانة
مرحبا .
– هيلانة .. حين يطوي قارئك الصفحة الأخيرة… ما الذي تتمنين أن يبقى عالقًا في ذاكرته؟
أتمنى أن أكون أنا العالقة في الذاكرة لا أبطالي اللذين يتعاقبون ولا عنوان الكتاب الذي يسقط سهوًا بين العناوين الكثيرة، ولا لغتي ولا حتى كتاباتي… أتمنى أن يُقال: تبًا لك يا هيلانة
– هل تعتبرين أن الأدب الجريء قادر على فضح القوانين الاجتماعية والدينية القاسية دون أن يثير عاصفة نقدية ضد الكاتب؟
الجرأة بمفهوم الشجاعة وليست بمفهوم الوقاحة، فالأدب اليوم ليس الأداة الوحيدة ولا الأقوى على مجابهة القُبح المجتمعي المتستتر تحت عباءة الدين، فهو أحد أركان فساد المجتمع، ولا شك أن العواصف النقدية أهم أسباب نجاح الكاتب.
فإن لم يُحدِث الكاتب حراكًا أو عصفًا ذهنيًا، فهو لم ينجح في اختراق المجتمع وتعريته.
– هل تري أن الجرأة المطلقة في الكتابة تستدعي مسؤولية أخلاقية أم أنها محررة تمامًا من الأخلاق؟
في بعض الأحايين أجد صعوبة بالفصل بين الأخلاق واللّا أخلاق. فكيف نبصر البياض مالم يكن بعضًا من السواد الموازي له في الصورة!.. لا أستطيع التخلّي عن كامل عُهري ولا أستطيع التخلّي عن كامل طُهوي. ولا أعترف بمصطلح “مطلقة” وأميل إلى التخلي عن مفهوم “المسؤولية الأخلاقية” التي يُنادى بها في حانات الأدب.
لكن معيار الأخلاق يختلف من شخص لآخر، فالبعض يعتبر كلمة “مؤخرة” كلمة لا أخلاقية.
أليس هذا تطرفًا فكريًا على لغتنا العربية؟
– هل سبق أن شعرت أن شخصية كتبتيها تخونك داخليًا أكثر من أي شخص آخر في حياتك؟
نعم، وإن لم أبلغ هذا الشعور فلا بد أن أعيد النظر في تشكيل شخوص العمل.
الشخصيات التي أرسمها لابدّ أن تتمرد عليّ تخونني تنتهكني تستنزفني، تتلبسني لدرجة التصديق، بأنها ليست مجرد شخصية وهمية على ورق.
– إذا كان عنوان “بماذا أخبر الله؟” يحمل إشكاليات فلسفية ونفسية، هل تعتقدين أن الكتابة قادرة على إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمقدس؟
يبقى مجرد اعتقاد، وكل الاعتقادات قابلة للتأويل والتفسير والتغيير.
ولا شك أن الكتابة امتداد للواقع الذي نعيشه اليوم من عبثية الأسئلة التي نواجهها في فهمنا اليومي أو محاولة فهم الحقيقة التي لا تنتهي..
– في “تبسمت جهنم” تتقاطع الغرائز والمعاناة بطريقة لم يجرؤ المجتمع على التعبير عنها. هل كتبت هيلانة في محاولة لكشف ما يُسكت عنه، أم تجربة لإجبار القارئ على مواجهة ذاته المكبوتة؟ ام ماذا !
محاولة لكشف بعض المسكوت عنه وليس كله. ففي عالمنا ما هو أكثر بشاعة مما وصفت، وأكثر فُحشًا، أنا تناولت جزءًا صغيرًا دون التعنّي بإجبار القارئ على مواجهة ذاته. وما زلت أشعر بأن هناك الأهم والأكثر إثارة ولم أتجاوز جميع القيود التي فرضها عليّ المجتمع بعد… لكنني أحاول قدر المستطاع كسر بعضها. لمجابهة ذاتي قبل فرضها على الآخرين.
– إذا كان القارئ سيعرف كل أسرارك الخفية من خلال شخصياتك، هل ستكتبينها بنفس الطريقة، أم ستخافين أن تُفضح روحك؟
في كل مرة أحاول فيها إقناع القارئ بأنّي كاذبة وأبطالي يختلفون عنّي يتفوق عليّ أبطالي وينتصرون لروحي الممتدة في شخوص العمل. وهذا هو القطف الوحيد الذي أجنيه لاستكمال رحلتي مع كشف الأسرار التي تتعارك داخلي.
– أيهما أقرب لقلبك .. المرأة التي تقرأك أو المرأة التي تكتب مثلك؟
لا هذه ولا هذه، الأقرب إلى قلبي المرأة التي إن قرأت لي تصاب بلعنتي أو قرأت لها فأصاب بلعنتها.
– عنوان روايتك «فما بكت عليهم الأرض» يحمل فكرة فادحة الأرض نفسها || رمز الأم والحضن || لم تبكِ. هنا سؤالي: هل كان هذا العنوان صرخة وجودية تعكس خوفك الداخلي من عبثية التضحية وضياع المعنى، أم أنكِ أردتِ أن تقولي إن البكاء فعل إنساني زائل، بينما الأرض تبقى باردة وصامتة أمام كل مأسينا؟ ماذا تقولين !
أثناء كتابة رواية “فما بكت عليهم الأرض” كانت تلاحقني بعض آيات سورة الدُخان، لذا وقعت في فخاخ التناص في لغة هذه الرواية، وكأن العنوان وحيًا يقول لي؛ ستبكي السماء على فلسطين، وكل الأرض في السماء كالجنين الذي يحاول الانقطاع عن خلاص أمه. هي فلسفتي الخاصة وحبل سرّي يربطني بهذه البقعة. اشعر أنني فلسطين والسماء هي والدتي التي فقدتني وتبكيني. فقررت كسر هذه الصورة بقلبها في بكاء الطفل على والدته، تصور للأرض التي تمطر في السماء، للأرض التي تلد وكأنها معارضة وجودية لعكس الحقيقة الغائبة.
– في روايتك، يُصوَّر الفلسطيني في كثير من الخطابات والقصص كرمز أو أسطورة تُروى عنها، بينما الواقع الذي يعيشه حقيقي ومعقد. سؤالي: كيف يمكن للفلسطيني أن يفرض واقع حياته ويتجاوز هذا الاختزال الأسطوري، ويعيش تجربته الإنسانية بكل تفاصيلها؟
ليس كذلك، بل العكس تمامًا. الرمز والبطولة في رواياتي هي الأرض؛ فلسطين والصراع بين الأديان والثقافات عليها.
الفلسطيني فُرض عليه كلّ شيء ولم يفرض على الآخرين إلا رؤيته وهو يُباد ويُهجّر ويُجوّع ويُشتت … إلى مالا نهاية هذا الواقع وصمة عارٍ في عصر يتاجر بشعارات حقوقية يجب أن تعيد حسابتها اتجاه الفلسطينيين.
– هل شعرت يومًا أن بعض الصراعات في فلسطين أصبحت جزءًا من كتاباتك أكثر من كونها واقعًا؟
لا، هي واقع حقير أكبر بكثير مما أتطرق إليه في رواياتي.
الواقع الذي نحاول ستر عورته أو وصفه من خلال ساتر خشية أن يصبح اعتياديًا
– هل شعرت أن جذورك الفلسطينية تجعل كتاباتك مباركة اجتماعيًا، أم محكومة بالنقد المستمر؟
هي مباركة للبعض ومغضوبٌ عليها البعض. جرح كبير لا يلتئم مهما حاولت إخفاءه يستفز البعض ويعتبرونه ندبة لا بد من تجميلها. ولكني لن أفعل ذلك.
– . هل هناك فكرة جرئية جدًا رفضت كتابتها فقط لأن الحقيقة كانت ستفزعك أنت قبل القراء؟
لا أفزع من الحقائق ولكني أعجز مرات عن تأطيرها كاملة دفقة واحدة فأكتبها على شكل جرعات صغيرة حتى لا تقتل القارئ الذي يتناول كتاباتي بنهم. لا أتعمد تسميم الآخرين ولكنّي أنفث الحقائق عندما أجد وجعي متفاقمًا منها.
– هل يمكن للكاتب أن يكون محايدًا أو حياديًا أمام الحرب، أم أن الحياد نفسه خيانة؟
لا أعتبر الحياد خيانةً ولست ممن يؤمنون بأن الكاتب محاربًا أو حربةً في معركة. الأدب فسيح جدًا على امتداد العالم كله وليس مجرد جولة وفرض عين بحكمٍ فقهي يقول: الحياد خيانة.
فبعض الأراء خيانة لذات الكاتب، يكتبها للمتاجرة بها أو من مبدأ مع الخيل يا شقرا.
– . هل سبق أن شعرت أن شخصية كتبتها استولت على جزء منك وأصبح يسيطر على أفكارك خارج الورق؟
كل شخصية كتبتها لها حيزها الزمني ينتهي دورها ببدء عمل جديد. إلا زُهر في رواية فما بكت عليهم الأرض. كلما حاولت طمسه من ذاكرتي يعود إليّ يتلبسني بكل بشاعته التي صورتها وكأنه لعنة العقاب التي تقول لي: لماذا فعلت بي هذا.
– في مواجهة المحرمات (الجنس، الدين، القوانين)، هل تختارين الصراحة كقيمة عليا أم كاستفزاز واعٍ؟ أم ماذا!
القيمة تُفقد قيمتها عندما تختارين طرفًا فيها. لابد أن تلقي الشباك وتتركي الصيد للقراء. طرح الأسئلة من دون الاجابة عليها!
– إذا اختفت جميع الكتب في العالم باستثناء كتبك، في اعتقادك هل ستصبحي الأسطورة أم المذنبة الكبرى؟ ام ماذا؟ مجرد اعتقاد…
الله… سؤال فانتازي رائع جدا. أنا لم يخطر ببالي يومًا أن أمتلك الساحة وحدي حتمًا أتمنى. حينها سأفرض على هذا العالم الحقير حقارتي وعنفواني، سأفرد جناحيّ وأقطف رؤوسًا أينعت، وأرفع وأنصب من دون حسيب. سأرتكب جرائمي من دون شفقة، وأعظم الأساطير هي الأكثر جُرمًا.
– إذا انتهى بك الأمر إلى كتابة رواية عن نفسك، هل ستجدين الجرأة الكافية لتحويل حياتك إلى نص صادم كما تفعلين مع الآخرين؟
فعلتها وخرجت عن المألوف عندما صدمت المقربين مني بكتاب عنونه ؛ شخصيات من ورق.
ولو سنحت لي الفرصة سأختزل حكايتي في قصيدة أو رواية وكلي ثقة بأنها اجمل صدماتي الكثيرة.
– بطلاتكِ يتشابهن في الملامح الداخلية، كأنهن وجه واحد يتكرر… هل هذا التكرار وعي جمالي مقصود، أم أثر لذاكرة شخصية؟
في كل محاولة ناجحة عليّ التماهي مع أبطالي لذا أنا الخيط الناعم الذي لا ينقطع وهنا يكمن سر الجمال.
عندما تمنحنا الصدف روحًا تشبهنا رغم كل المفارقات الشكلية نشعر بالانتشاء هذه اللذة نستطيع صنعها مع تفاصيل حياتنا اليومية؛ احتساء القهوة قيمة جمالية!
فكيف باحتساء بطلٍ يحتسي الفكرة زادًا له. أو لها.
– الحميمية في لغتك لا تبدو لغوية فقط، تنبض بحرارة حسية… أهو مقصود فني لإشراك القارئ أم انزلاق غير واعٍ لدفء شخصي يتسرب من الكتابة؟
سؤالك صعب غاليتي. اللغة كائن حي يتنفس يبكي يموت يتوعك يرقص يقتل … كائن يمارس علينا كل جبروته ولا سطوة لنا عليه إذا ما تمكن منّا.
وأنا أسيرة لغتي، أحاول اسقاط القارئ يقينًا منّي أنه يستحق هذا الدفء وهذا الصقيع وهذا الدمّ الطازج، اقل ما يمكنني فعله هو الكتابة بضميرٍ مازال على قيد الحياة.
– إن أسقطنا عنكِ كلمة (روائية)
هل لديكِ هوية أخرى تصمد؟
نعم، رغم كرهي لهذه الألقاب فأنا للأسف يُقال عنّي شاعرة ويُقال كاتبة أديبة … وإن خسرت لقب روائية سأتدثر استعدادًا للموت
– إن كنتِ تعتقدين أن الكتابة تمرّد، فمن أين يجيء لحظة الخضوع الأولى في قلب المتمرّد؟
التمرد رديف الخضوع، ولا يكون إلا بعد انتهاء المعركة مع ذاتك الخاضعة. ولا يسبق التمرد خضوعًا إلا في حالة عشق عنيفة تقتلع القلب
– اذا كان كتبتي رواية موجهة هل تجرؤين أن تقولي انها لم تُكتب للناس، وإنما انتقامًا من أحدهم؟
لا أهدر عملًا كاملًا على شخص فالانتقام مرتبة لا أمنحها لمن تسحقهم شخصياتي أو سقطوا ..
– هل حدث ان شعرتِ أن كلماتك كاذبة حتى وهي صادقة؟
حدث وجدًا ولو لم يحدث فالكذب مهارة عظيمة جدا
“ما أصدق كذبك وما أكذب صدقك… وكل أكاذيبك يأتين إليّ يبكينك، فأخبئك كي لا يلتقطكَ جوعهن.”
– هل هوية هيلانة الحقيقية مخفية بين السطور؟!
هويتي لغتي العربية واللغة كفيلة بفضح أسرارنا الناعمة والقاتلة.
هيلانة ليست حقيقة ولا يمكن وصفها إلا في خارج نطاق المنطق اللغوي الذي لم يكن ظاهره خفي وخفيه ظاهرًا
– هل حدث في مرة بدأ لك ان كل إبداعك مجرد لعبة لإظهار عبقريتك، وليس محاولة صادقة لخلق حياة أو تجربة حقيقية للآخرين؟
لا يبدو بل هو كذلك يجمع استعراضي بتطويع اللغة لخلق حياة كاملة حقيقية. اللغة أداتي في هذا الخلق الذي أبحث فيه عنّي أنا!… أنا التي تبحث عن حقيقتها ولا أريد إيجادها.
– هل تكتبين اليوم بنفس شغفك الأول أم بطريقة مختلفة؟
الشغف يتراجع ويتقدم كموج البحر لا احاول التدخل فيه. أنا استسلم له كحالة من عدم وجودية ومنازعة ينتصر فيها النص فقط.
– إذا استطاعت إحدى شخصياتك أن ترافقك على سريرك الأفكاري، هل ستسمحين لها أم ستدفعينها بعيدًا؟
أبطالي جزء مني لا يمكنني اخراجهم او الخروج منهم.
يتلبسون روحي المنحرف يحرفني لدرجة من الانحراف، الضعيف يسحبني نحو حالة ضعف والقوي يجعل مني امراة شريرة … هذه الحالة التي أدمنت لذّتها خلقت فيّ ألف امراة يتقاتلن داخلي وأعشقهن.
– أخيرا: لو أُتيح لك أن تسألي الله سؤالًا واحدًا فقط، على أن لا تحصلي على أي إجابة أخرى منه بعد ذلك، فما السؤال الذي تختارينه؟
تجرأت وطرحت السؤال الذي طرحته في عنوان “بماذا أخبر الله” ولا أعرف جوابًا يليق بهذا السؤال المؤرّق لي.
– شكرا هيلانة