قراءات

ميرغني أبشر: لماذا أنا صوفي وعلماني؟

سودان ستار

 

في المجتمعات الجاهلة، والتي كان يتسيّدها العقل الداخلي للجماعة، كانت الأحكام المُنظِّمة للمجتمع تتولّد عن شرعة هذا العقل الداخلي، ومخرجاته الساذجة الصلبة، صحراوية المنشأ، بادية التعاطي والسلوك. يدخل على المرأة الرهط من الرجال، فتختار لمولودها ما يعجبها منهم أباً، تُقتل البنت عاراً بلا جريرة، لأنها موضع متعة وإشباع دنس، ويطوف الناس عراةً بالبيت الحرام رمزيةً للتطهّر، ومن هنا أخذ العُري معنى الطهارة في تراث تفسير المنامات، وتُستمد القوة بالنُّصرة من عند مكانة القبيلة، والقوي بالصرعة، هكذا كانت واعيتهم.

 

لذا، كان مجتمع الجاهلة في حوجةٍ حرجةٍ لظهور العقل الخارجي المتعالي، لينظم حياة المجتمع وفقاً لقيم تعزز مساواة النوع، وعدالة الأحكام، وتحقق إنسانية الإنسان، وتحرره من بشريات قرون الظلام. وهذا ما حدث بنبوة الأنبياء عليهم السلام، وتبني المجتمعات لليهودية والمسيحية والإسلام لشرعة العقل الخارجي المؤسس لمنظومة القوانين الدولية الحاضرة، بعد أن انتقل هذا العقل الخارجي، وحل محل العقل الداخلي القديم للجماعات الجاهلة، ونزع عن نفسه رداء القداسة، الذي كان ضرورياً وقتئذٍ، وحتماً مقضياً من أجل أن يفوز بطاعة العقل البادي القديم.

 

ومن هنا فقط يجب ألّا نقيس النسبي ونُحكِّمه على قواعد العقل الخارجي القديم (النصوص المقدسة)، والتي لا تتناسب وحداثة المجتمعات العصرية. إذ إنّ الاحتكام بما أنزل الله قد أُنجز، وأضحى العقل الداخلي للإنسانية. وما أبدعه العقل الفقهي من قياس، وإجماع، وفقه مقاصد، ومصلحة جماعةٍ غبّ ذلك، لضروري سكت عنه العقل الخارجي وقت نزوله، يكشف بسطوعٍ تامٍ جديد المجتمع وتطوره.

 

كما ويكشف هذا الاجتهاد الفقهي عن النظرة السطحية لله، إذ تجعل منه مباشرةً جاهلاً بما هو قادم في مستقبل البشرية من موضوعاتٍ تتطلب أحكاماً لم يجدوها في كتابه. ومن هنا تأتي صوفيتي (التي ترفض أن تضع لله حداً، وتعتقله فقط داخل نصٍ وظيفي). إن اكتمال التنزيل يؤكد على نضج الإنسانية، وتجدد عقلها الداخلي، واكتمال أركانه، ليكون عقلها النسبي هو وحده مناط الحاكمية. لهذا (ليس في صوفيتي فرقٌ بين الكائن الإنساني وبين العقل الخارجي)، ولكنه أيضاً فرقٌ لطيفٌ يحفظ لله تعاليه في إطلاقه، وتجليه الناسوتي في قوانينه وسننه، التي يمسك بها الإنسان بعاقلته وقلبه، من أجل عمارة الأرض.

 

فعلى سبيل المثال، إذا كانت مساحة الدولة محدودة، وكذلك مواردها التي تتناسب وعدداً معيناً من السكان، يمكنني (كحاكم) أن أفرض قوانين تشجع على تحديد النسل، وفقاً لأحكام النسبي. هذه القوانين يمكن أن تواجه برفضٍ (ثوري) في إطار الدولة التي تُحكِّم المطلق (الله/العقل الخارجي القديم) في قضاياها النسبية، وبالتالي تخرج حتى على فهم العقل الخارجي القديم للدين، الذي تؤكد مقاصد شريعته على المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

 

إذن، فالعلمانية هي عرض القضايا النسبية على الأحكام العقلية النسبية، وليست فصلاً للدين عن الدولة، لأنّ ذلك غير ممكنٍ فلسفياً، ولا موضوعياً، إذ يمكن أن يكون الحاكم وغيره من أصحاب النفوذ في الدولة العلمانية أكثر وأعمق تديناً من زعماء الطوائف الدينية حتى. كما أنّ محاكم الأحوال الشخصية، وغيرها من الأحكام، تحترم وتتقيد بمذاهب القوم الدينية بالأساس، والتي لا تتعارض مع المبادئ العامة لحقوق الإنسان.

 

في مقابل ذلك، نجد الأصولية التي تنادي بعرض النسبي على المطلق، وبذلك تُغمض عينيها عن التعدد العرقي والثقافي، وتجعل فقط من الأكثرية الإيديولوجية سيدةً تنفي الآخر. وهي بذلك تريد أن تعتقلنا في القرن الثالث عشر، في عهد ابن تيمية، إذ إنّ عصر النبوة المحمدية كان عصر تنوير، وتثبيتٍ لقواعد العقل الخارجي في محل العقل الداخلي الجاهل. واستطاع أن يحقق في فترة وجيزة تبني الجماعة البدوية للمفاهيم الإنسانية الكلية، والتي أصبحت لاحقاً العقل الداخلي للمجتمعات المعاصرة، بعد أن تحررت من رداء القداسة المطلق، وتبناها ميثاق حقوق الإنسان الدولي، الذي ينطوي مضمونه (في معظمه) على تطوير التشريع الديني.

 

وهو ما عجز عن استيعابه الإسلام السياسي المعاصر، وجماعة الهوس الديني، أموية الصيغة من الإسلام السلطاني، الذي لا يتناسب وإنسانية القرن الحادي والعشرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى