مقالات الرأيمقالات فكرية

د. محمد محمد الأمين: الضحية اليوم فداء الحيوان بالعلم (1)

سودان ستار

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)

صدق الله العظيم

 

إن الحرب المشتعلة في السودان منذ ١٥ أبريل ٢٠٢٣م وإلى يومنا هذا، قد شغلت الناس بأنفسهم بسبب الفقر وضعف الدخول وعدم صرفها على ضعفها لأشهر أو عام كامل، فلم تعد في عقولهم مساحة للتفكير في الإعداد لذبح الخراف في عيد الأضحى الذي على الأبواب كما كان الحال في الماضي.. فالهم الأول صار هو إيقاف الحرب لإنقاذ الإنسان نفسه من الذبح والقتل والاغتصاب والنهب المسلح والنزوح المكلف ماديا ونفسيا!!

ولكن مع ذلك، فإن عامة الناس يتحسرون على أن يمر هذا العيد بلا لحوم، وهو يسمى عندهم (عيد اللحم).. فالاهتمام بأكل اللحم أكبر من الاهتمام بمسألة حكم الأضحية من الناحية الدينية!! والآن يسألون عن سعر الكيلو ليشتروا لحما بدلا عن ذبح الخروف لكي لا يمر عيد اللحم بلا لحم!!

إن الضحية عادة قديمة متمكنة، لا يمكن التخلص منها إلا بالعلم الروحي الذي يبرز ملابسات وجودها في الأساس ويبين فكرة تطويرها وفق أصول القرآن..

 

في هذا المقال محاولة لتبيين موقف الإسلام في أصوله من الأضحية وارتباطها بعلم التوحيد ودورها المرحلي في تاريخ الدين ليكون الناس على بينة من أمرها وكيف تتطور بالعلم في عصرنا الخالي..

 

في تاريخ المجتمع البشري القديم، كان التقرب إلى الآلهة يتم بذبح الإنسان قربانا على المعابد لا الحيوان.. ففي عهد مملكة كرمة 2500 ق.م، كان الذبح للذكور من الشباب لا النساء.. لكن بمرور الزمن برزت ظاهرة عقيدة “عروس النيل” المعروفة في تاريخ مصر القديم، والتي انتهت بالخطاب المشهور من عمر بن الخطاب إلى نيل مصر.. ثم تطور الأمر مع دين التوحيد وتحول إلى ذبح الحيوان بدلا عن الإنسان كما نعرف من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين أقبل على ذبح ابنه اسماعيل، فتم فداء الابن بالحيوان وكان ذلك قبل ألفي عام أي بعد مملكة كرمة بخمسمائة عام..

 

في هذا الإطار يجئ من أصول القران، الفهم العلمي الذي يدعو للانتقال باستمرار من الخارج إلى داخل النفس البشرية، والعمل على تهذيبها وتنقيتها من صفات الحيوان نحو صفات الإنسان، فالإنسان المعاصر لا يزال في مرحلة البشر، وتعتمل في دواخله صفات الحيوان، ولم يبلغ مرحلة الإنسان بالمعنى العلمي لهذه الكلمة.. ولو دققنا النظر في حالة البشر المعاصرين، لوجدنا العنف منتشر بينهم بأبشع مما تفعل الحيوانات المتوحشة..

في عهد النبي موسى عليه السلام، كان السحر لغة العصر فقاد موسى مواجهة مع السحرة فانتصر عليهم ومن ثم خضعوا له وآمنوا به، وكذلك قام النبي عيسى عليه السلام بإبراز قدراته في علم الطب وكان لغة عصره كذلك فتفوق على معاصريه، كما أبرز القرآن فصاحة اللغة في مواجهة فخر العرب بأشعارهم، فبزهم وبهرهم بحلاوته وبلاغته.. وقد ورد في القرآن في هذا الباب: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”..

وقد نزل الإسلام على مستويين:

الأول هو الأصل(المستوى العلمي) وهو السنة التي كان عليها عمل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في خاصة نفسه..

والثاني هو الفرع (المستوى العقائدي) وهو الشريعة المرحلية التي طبقت في المدينة على الأمة بعد أن ثبت عمليا عجزها عن التزام السنة..

وبما أن النبي الكريم قد بشّر بأن الإسلام سيعود في المستقبل ببعث السنة، فإن هذا التحديد يعني أن للإسلام لسان علمي “علم النفس” في عصرنا الحالي لمقابلة العلم المادي المسيطر على البشر في كل الأرض..

 

والإشارة إلى المستويين واردة بكثرة في القرآن والسنة، ويكفي أن نورد الآية: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”.. فالذين “آمنوا” تشير إلى مستوى العقيدة، والذين “أوتوا العلم” تشير إلى مستوى العلم.. ولذلك فإن على المسلمين واجب أن يطهروا أنفسهم من أمراض النفوس بعلم التوحيد، حتى يتمكنوا من إبراز الإسلام كعلم نفس له القدرة على تخليص الإنسان من النزعات الحيوانية مثل اتخاذ العنف منهجا بديلا للحوار الفكري كما يحدث في واقعنا بالسودان..

 

قال الأستاذ محمود في إحدى زياراته لحديقة الحيوان السابقة بالخرطوم: إن الإنسان كلما زار الحديقة، وشاهد بالتجسيد الحي السلوك الحيواني المشترك بين جميع الحيوانات كالشره والحرص والاتجاه إلى العنف، فإنه يحس بالتفوق الإنساني عنده، مهما كان مستواه، ومن ثم يخلف طرفاً من “حيوانيته” فيها، ويتعزز بفضل هذه المشاهدة الحية السلوك الإنساني عند الزوار عامة باستمرار على حساب السلوك الحيواني..

 

والتخلص من صفات الحيوان في الإنسان يقرب الإنسان إلى الله، فالأصنام اليوم ليست هي الأصنام الحسية التي كانت في عهد المستوى العقائدي في القرن السابع الميلادي، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وإنما هي أصناما معنوية قابعة في داخل النفس البشرية كالحرص والبخل والشره والحقد والأضغان وجميع مذام الصفات الموروثة فينا من الحيوان، وهي السبب الأساسي في الخوف والعنف وكل ما يعرف بأمراض المدنية كالقلق والتوتر وإدمان المخدرات.. وإنما يتم التحرر من عبادتها بتحقيق كلمة التوحيد من جديد، بمعنى جديد كان عليه النبي الكريم، ويقوم على أن الفاعل واحد هو الله وليس هناك فاعل غيره في الوجود، فهو (الفاعل الأصلي والوحيد) ولذلك فإن كل ما يحدث من أفعال من (الفاعل المباشر) إنما وراءها حكمة، ومن الخطأ الشنيع اصطناع العداوة مع الفاعل المباشر، باعتباره فاعلا مستقلا عن إرادة الله وتغييب الفاعل الأصلي..

 

إذن المطلوب منا أن نتعمق في خلق علاقة بالله وصلة به لنفهم عنه أسرار فعله فينا، وفي بيئتنا ومن ثم نسلم له وننقاد فنلقح الإرادة بالرضا، فتزول الأحقاد والضغائن التي يعمقها اصطناع العداوة مع الفاعل المباشر..

إن كلمة التوحيد التي كانت في المستوى العقائدي (الأصنام الحسية) تعني “لا معبود بحق إلا الله” فإنها تعني في المستوى العلمي (الأصنام المعنوية) وحدة الفاعل “لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله”!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى