
زندقة أمدرمانية قُبالة توتي
في جلسة قهوة مسائية، رفقة صديقي المتمرّد طبعاً وفطرة—ذلك الذي لم أفلح في تسربه عني ليتحوّل إلى جنٍّ يركب الجواد—هنا أُحدثكم عن القاص الحكّاء والمثقف الرفيع، كريم اليد، عبد الحفيظ مريود.
أقول، في تلك الأمسية والتي كانت تتساقط فيها حبات مسبحته بوعي ذاكر، وبعد أن أُرهقنا صومُ نهارٍ غايظٍ حتى غابت شمسه، ونحن جلوس قبالة توتي من جهة كورنيش أم درمان، سألتُه: ماذا لو كان رمضان خريفاً ينسجم دوماً مع لطف الطبيعة؟
ليمضِ الأُنس، يومها، بِزندقةٍ أديبةٍ حتى انتهى بنا إلى تأخُّرِ صاحب الزمان، الذي يأتينا في حجّةٍ ما، قد طال انتظارها.
وكان وقتها “مريود”، وأحسبه ما يزال، مفتوناً بمشروع محمد عابد الجابري الفكري.
وأظن، وبعض الظنّ يقين، أن للجابري حظاً كبيراً في استلاف منهج مولانا وسيدنا العلّامة باقر الصدر (قدّس الله سرّه)، الذي أخذ منه كثيرٌ من المعاصرين نهج “التفسير التوحيدي”. وعلى رأس الآخذين منه: الترابي، الذي اعتاد ألا يذكر مصادره، كما في تفسيره للحور العين، إذ أخذه عن مقالة للحسن البصري من تفسير القرطبي، وترك الناس ينهقون جهلاً، ويتبسّم هو مكراً.
أقول بظني هذا، وقد فَتح مؤانسي ما يدبّ في سريرتي على سعته، حين بَرَقَت عيناها قائلاً: “أن تلاعباً ما قد تمّ—بقصدٍ يهوديٍ متحوّلٍ للإسلام، وسلامة نيّة سلطانية—في التقويم الهجري”، فكان من ثمار ذلك اليوم الزندقي هذا المبحث، المتأسلم في ثوبٍ أريده مقبولاً.
لذا، أقول لك: لا ينفصلُ التشريع الإسلامي عندي عن السنن الكونية؛ فالقرآن كتاب الله المسطور، كما أن الكون كتابه المنشور، وبينهما وحدة نسق لا تقبل الفصل ولا الفكاك.
في هذا الإطار، تتنزل فريضة الأشهر الحُرم، لا بوصفها تواريخ مجرّدة، بل كضبطٍ زمنيٍّ منسجم مع إيقاع الطبيعة، ومرآة لحكمة الخالق في تنظيم العلاقة بين الإنسان والكون.
لم يكن تحريم القتال والصيد في هذه الأشهر ترفاً تشريعياً، بل استجابة لفصول الاعتدال المناخي، التي تشهد فيها الحياة البرية أوجَ تكاثرها وتجددها، فيُحيطها القرآن ويحرسها بالتشريع لتُصان من العبث والدمار.
في تفسيره لآية التوبة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ…}، يذكر الإمام الطبري أن هذه الأشهر حُرِّمت لأنها مواسم للعبادة والأمن، ولو تُركت لأهواء الناس لفسد النظام.
وما هذا النظام إلا صورة عن التوازن البيئي الذي يُراعي احتياجات الأرض والكائنات، ويجعل للعبادة بُعداً عضوياً يُنظِّم الإيقاع الحيوي، لا يقتصر على الإنسان فحسب، بل يشمل محيطه بأسره.
في هذا السياق، كان صوم رمضان متزامناً مع الخريف، حين تخف الحرارة وتطول الليالي، وكان الحج يُقام شتاءً في ذي الحجة، حين تعتدل الأجواء وتتهيأ القوافل للسير في أمان ومشقة محتملة.
وفي عهد الرسول الأعظم، ثم في خلافة أبي بكر الصديق كلها، ظلّ التقويم القمري متوافقاً إلى حدٍّ كبير مع النظام الموسمي الطبيعي، غير متباعد عن التنظيم الموروث السابق، دون أن يفارق الانسجام القائم بين الأشهر الحُرم والفصول، فحُفظ التوقيت الذي تتنزل فيه الشعائر الكبرى في مواسمها الفطرية، من غير أن يُخلّ ذلك بحكمة التحريم أو مقصد الأمن البيئي.
لكن ما لبث أن تغيّر الأمر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي سنّ تقويماً قاطعاً لا يعتمد “الكبس” جملة، مراعاة لحاجة الدولة المتسعة إلى نظام إداري محكم، يقفل باب الالتباس في تواريخ المعاملات ودواوين الدولة.
وقد جاء هذا الاجتهاد بحسن نية، استناداً إلى قراءة للآية {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، دون أن يُقف مستشاروه – ومنهم كعب الأحبار – على البعد الكوني الذي كانت الأشهر الحُرم تؤديه في النسق الطبيعي العام.
لم يكن القرار مقصوداً به فصل الشعائر عن الطبيعة، ولكنّه مع مرور الزمن أفضى إلى فقدان التوقيت الشرعي بعده البيئي؛ فتحولت الأشهر الحُرم إلى وحدات زمنية تدور خلال الفصول دون ثبات، وتباعد الحج عن الشتاء، كما تباعد رمضان عن الخريف، وتعطلت بذلك كثيرٌ من المقاصد الحكيمة التي أُقيمت عليها الشعائر في أصلها المنسجم مع إيقاع الكون.
عند التأمل في السياق القرآني لآية النسيء، يتبين أن الإنكار لم يكن على مبدأ “الكبس” ذاته—وقد أكون غير دقيق أو على خطأ حتى—بل على التلاعب الغادر الذي كان يُمارَس به، حيث كانت القبائل تؤخر الأشهر الحُرم عمداً لتُبيح لأنفسها القتال، ثم تعود فتحتج بحرمتها.
فالآيات تتحدث عن نقض المواثيق، لا عن التنظيم الفلكي المجرّد، وتشير إلى الخيانة الأخلاقية لا إلى الحساب الزمني بحد ذاته.
وقد ذهب الإمام الطبري إلى أن “النسيء” هو التأخير الذي يُفسد النظام، سواء في الزمن أو في المبادئ، لا مجرد إدخال شهر كبيس على العام.
من هنا، جاءت دعوات بعض المفكرين المعاصرين – ومنهم محمد شحرور، ومحمد الجابري، وأركون، وغيرهم – لإعادة النظر في التقويم الهجري بما يحفظ العلاقة بين النص والفطرة، وبين الشعيرة والبيئة.
بعضهم اقترح تقويماً هجرياً شمسياً موازياً، يُراعي الاعتدال الموسمي، دون أن يُخلّ بالتعبد القمري.
وآخرون دعوا إلى فصل العبادات عن التقويم الإداري أو البيئي، بحيث تبقى الأولى على حساب القمر، وتُربط الثانية بحركة الشمس، تحقيقاً لمقاصد الشريعة في حفظ النظام الطبيعي.
هذه الطروحات، وإن خالفت المألوف، فإنها تُعيد الاعتبار لحكمة التشريع في علاقته بالكون، كما فهمها المفسرون الأوائل، وكما نطق بها الطبري حين قال إن الدين يُسر، وإن الحكمة لا تُلغى بجمود النص.
إن الأشهر الحُرم لم تُشرّع لذاتها، بل لتحقيق العدل بين الإنسان والطبيعة، وإن التغيير التاريخي الذي طرأ على التقويم لا ينفي صلاحية النص، بل يدعونا إلى تجديد الفهم، لا إلى نسف الأصول.
إن ما نحتاجه اليوم هو تفسير مقاصدي يعيد وصل ما انقطع، وإصلاح تقويمي يوازن بين الثبات الديني والمرونة الكونية.
ولو عاد تنظيم النسيء – بضوابط شرعية دقيقة – لعاد التوازن، ولاستعادت الشعائر موقعها في قلب الطبيعة.
*وأخيراً، إنها مجرد ونسة بحرية على سعتها، وليدة جلسة على كوب قهوة لا أشربها.*