شعرمنوعات

الصادق عبد الشافع زايد: إلى / أُمْ الناس آدم الزِّبير .. أُمّي 

كوستا

إلى / أُمْ الناس آدم الزِّبير .. أُمّي

 

في مثل هذا اليوم بالضبط قبل ثلاثون عاماً بالتمام و الكمال ( 30 سنة ) خرجتُ أنا لهذه الحياة يا أمي ، و كما أخبرتيني في عدّة مرات سابقة عن تفاصيل ذلك اليوم السعيد ، اليوم الذي قسّم فبراير ذلك العام إلى نصفين ، العام الذي كان الموسم موسم حصاد و الخير وفير بحسب كلامكِ ، ذلك الصباح الذي جمع النسوة في بيتنا الكبير في قريتنا ، البيت الذي يشبه كل بيوت القرية في كل شيء ( القطاطي ، الرواكيب ، الحوش ، الجُبراكة ، الأشجار ، أكواخ الدجاج و مرابط الحمير … ألخ ) تلك القرية الصغيرة و الجميلة التي تجلس بكامل كبريائها أعلى التلّة التُرابيّة على مرمى حجر من الفاشر ، القرية التي عرفتها على حقيقتها و طبيعة أهلها فقط عندما كبُرتُ و زُرتها .

اليوم يا أمي سوف أفتح صفحة جديدة من عمري ، إبنكِ الذي قبل سنوات أظنها قليلة أتذكرها الآن كأنها بالأمس كنتِ تغسلين له الملابس و تملأينه بالتوبيخ عندما يلعب بالتراب أو يذهب مع الأطفال للعب في البِرَكْ أيام الخريف ، و تحذرينه من لعب الكرة داخل البيت أو لعب ( البلّي ) مع الصِبية المشاكسين تحت الشمس اللاهبة عندما ينتصف النهار خشية السحائي في الصيف ، إبنكِ ( الفالح ) الذي يحب الإستماع إليكِ و أنتِ تحكين له قصص الماضي و أحاجي الجدّات .. أذكر جيداً يا أُمّي ذات مرة كنتِ تشرحين لنا تفاصيل صورة على غلاف كتاب يخص أبي و ما كُنّا نعرف أنا و إخوتي و لا حتى أنتِ من أين يأتي أبي بمثل هذه الكُتُبْ لكننا ما كُنّا نسأل نوع هذه الأسئلة لأسباب لا نعلمها جميعنا ، كان يظهر في غلاف ذلك الكتاب صورة لرجل في صحراء قاحلة يمتطي جملاً و لا أعرف بالضبط كيف لكِ أن تعرفي أن الرجل كان ضائع في الصحراء و الظمأ يكاد أن يقتله هو و بعيره ، بل أنه كان يقصد ديار أمه ، في كل مرة تشرحين لنا قصة الرجل الضائع في الصحراء تقولين عبارة ظلّت راسخة في ذهني منذ تلك الأيام و إلى هذه اللحظة و هي كلامكِ على لسان الرجل الضائع الذي يقول ( أنا ماشي مكان ماما .. أناماشي مكان ماما ) كان ذلك ” الكُتيّب ” بالنسبة لي وقتها شاشة ضخمة أشاهد فيها تفاصيل معاناة المسافرين عابري الصحراء الضائعين ، الذين يجرّهم الحنين إلى أمهاتهم و ديارهن ، كنتُ دائماً ما أفتح الكتاب ذا الورق الأصفر و الخطوط العريضة لكنني وقتها طفل دون سن المدرسة و لا أجيد القراءة و الكتابة كما أنتِ بالضبط ، لكنني كُنتُ أشاهد صورة الغلاف يومياً و بمتعة كبيرة .. قبل أيام من الآن ضحكتُ بيني و بين نفسي عندما تذكرت تلك الأيام و كيف لطفل في ذلك العمر أن يكون محب للكتاب ؟! .

بعد سنوات كثيرة جداً من تلك الأيام الخوالي يا أمي أخبركِ اليوم بأنني ما أزال أحتفظ بذلك الكتاب ضمن كُتبي التي تعرفين ، لكنني لا أعرف بالضبط هل ضاعت كل تلك الكُتُبْ في هذه الحرب أَم أنها ما تزال موجودة في مكانها و لم يطالها الحريق أو التمزيق ، كان ذلك الكتاب هو ديوان شعر للشاعر السوداني سيد أحمد الحردلّو و يقول في أحد المقاطع :

 

على درب الرحيل

قاعد يلوّح

ديمة للراحلين

يودّع ديل و يلحق ديل

و خايف يُمّة

لو سافرت من دون رفقة

من دون ناس

شادد نوقو

و كايس رِفقة

للدرب الطويل الشين

 

كانت دائماً تستهويني هذه الأشياء و القصص يا أمي ، و لا أعرف كيف لقصة ذلك الرجل الذي تاه في الصحراء و يبحث عن ديار أمه أن ينطبق علينا نحن أبناء هذا الجيل في هذا العصر و هذا الزمن السريالي الغريب و هذه الحياة ذات الإيقاع السريع ، أصبحنا يا أمي ضائعين أيضاً في صحراء لا أول له و لا آخر ، ضائعين مع الأحلام التي ذابت في البحر ، ضائعين في مُدُنْ كاذبة تملأها الزيف و صخب التكنولوجيا ، ضائعين في ميادين القتال ضمن حروب طاحنة نشبت بالقُرب منّا ، ضائعين في الملاجئ و المُخيّمات .. أحنَّ إليكِ يا أمي و إلى دياركِ ، أنا ظمآن لرؤيتكِ ، لكوب شاي معكِ ، و الجلوس قربكِ و أنتِ تنسجين الحكايات و تقولين كلمة صعبة و نادرة من لغتنا الأم و تطلبين المعنى ، بهذه الطريقة تختبرين معرفتي بلُغتي من عدمها ، أحنُّ لعاطفتكِ و حبكِ الذي لو عرف الناس لحسدوني عليه .. لقد غنّى أحد الفنانين الشباب من جيلي أغنية مليئة بالحنين إلى الأمهات و ديارهن و كان هذا الشاب يغنّي بلُغتنا الأم و إسمه ( حيدر ود فاء ) و في الغالب لا تعرفينه لكن أجاد الغناء عندما قال فيما معناه :

 

نعبر الصحراء و الجبال

و نعبر الأودية

نسرج جِمالنا

و نعود لديار أمهاتنا

 

اليوم يا أمي ها قد بلغتُ الثلاثين من عمري ، لكنني لم أعد ذلك الطفل الذي لا يعرف القراءة و الكتابة و يتأمّل أغلفة الكُتُبْ ، و لا حتى ذلك الولد الذي جاء راكضاً إليكِ في أوّل سنة له بالمدرسة و قال ( أمي أنا جيت الأول ) .. اليوم يا أمي ألّفتُ بنفسي ثلاثة مؤلّفات و طبعتُ منها كتابين و الثالث سيكون قريباً بين أيدي القُراء ، اليوم يا أمي ليس ككل الأيام ، اليوم بلغتُ فيه الثلاثين من عمري و أنا بعيد جداً عن دياركِ و من ضحكتكِ الوردة ، و حكايات الرجل الذي يقول ( أنا ماشي مكان ماما .. أنا ماشي مكان ماما )

 

من إبنكِ / صدّيق ( كما تقولين دائماً )

_________________

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى