
سوسيولوجيا الامتياز: فشل الثورة حين يقودها المنتفعون!
لماذا فشلت أنتفاضة أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018 في إحداث تغيير من سودان قديم إلى سودان جديد؟ ولماذا التغيير سيأتي من الهامش وبصورة مسلحة لا بصورة هتاف وحراك سلمي؟
أولًا نوضح لماذا فشلت الانتفاضات الثلاثة في عدم إحداث سودان جديد. أشرتُ لكونها انتفاضات عن قصد، لأن الثورة هي تغيير جذري كلي، والانتفاضة حراك محدود يُحدث تغييرًا فوقيًّا سرعان ما يستقر الوضع كما هو.
فشل الانتفاضات الثلاثة يرجع لسبب كبير، وهو أن المعني بالتغيير هو السودان القديم، وأن الانتفاضات كانت حراكًا سلميًّا، والحراك السلمي يحتاج إلى طبقات متعلمة تعرف كيفية صناعة الهتافات والأدبيات التي تعكس شكل المطالب. وهذه الطبقة لن تتوفر إلا في المركز، حيث التعليم وصنع القرار والامتيازات.
إذًا، لماذا حدث الفشل؟ ببساطة، لأن المعنيين بالتغيير هم نفسهم الذين يقومون بالحراك، وهم أنفسهم عَضُم دولة 1956، حيث تتداخل الامتيازات والارتباطات الأسرية والمعارف وشبكات المصالح والقبيلة أحيانًا.
فأول ما تصل الانتفاضة إلى بدايات سقوط السودان القديم، أي دولة 1956، حينها يشعر إنسان المركز أن امتيازاته تهتز وعلى وشك السقوط والفقدان الكلي، فتجده لا شعوريًّا يتراجع، وهنا تتحول المطالب من جذرية إلى فوقية لا تتعدى التغيير الظاهري، وسرعان ما يعود نفس الوضع ونفس الامتيازات. إذًا لا يمكن أن يعمل إنسان المركز على تغيير نفسه، ويسقط امتيازاته، ويهدد مصالحه التي تحصل عليها عبر انتمائه للمركز ولدولة 1956 ككل.
فكل الانتفاضات ستقوم من المركز، والسبب أن الحراك السلمي يتطلب طبقات واعية تجيد صناعة الشعارات والهتافات والمطالبات والتنظيم في مسيرات. وهذا لن يحدث في الهامش، لأن الهامش حُرم من التعليم ومن كل حقوقه خلال حقبة السودان القديم، حيث يسبح في محيط من الجهل والفقر والحروبات والمشاكل القبلية المفتعلة، والتهميش على أساس الدين والقبيلة.
لذلك لن يقوم أي حراك سلمي هتافي في الهامش ليقود تغيير السودان من قديم ظالم إلى سودان جديد عادل يُعامل فيه الإنسان السوداني بالتساوي على أساس المواطنة.
كل محاولة تغيير بحراك سلمي يبدأ من المركز ستفشل كسابقاتها، لأنه لا يمكن لمن يقوم بالحراك أن يُسقط نفسه ويفقد امتيازاته. وحرب 15 أبريل 2023 هي طرف من هذا.
الغالبية الذين ينتمون للمركز ولهم مصالح في وجود دولة 1956، وقفوا مع الجيش، سواء كان هذا الجيش مُدلجًا ومُسيّسًا من قبل جماعة الإخوان المسلمين، أو مسيطرًا عليه من قبائل محددة. لكنهم يقفون مع مصالحهم ويحُمون امتيازاتهم، لأن الطرف الذي يقاتل “قوات الد،عم السر، يع” (RSF) هو يقاتل في صالح بقاء امتيازاتهم.
فتجد غالبيتهم لا ينتمون لتنظيم الإخوان المسلمين، وربما تجد فيهم من كان معارضآ لهم قبل الحرب، لكنهم أدركوا أن الطرف الذي يقاتل RSF إنما يقاتل في اتجاه حماية امتيازاتهم، سواء كانت امتيازات قبلية أو ارتباطات مصالح في وجود دولة 1956 أو أي مصلحة أخرى.
لذلك، كل محاولة تبدأ من المركز ومن قلب دولة 1956 لإحداث تغيير لسودان جديد ستفشل، حتى وإن قامت ألف محاولة ستفشل، والسبب: ما في جهة بتسقط نفسها.
ننتقل الآن إلى جزئية: لماذا تغيير دولة 1956 سيأتي من الهامش وبصورة مسلحة وليس هتافًا سلميًّا؟
ببساطة، كما أشرتُ أعلاه، إن الحراك السلمي والمنظم والمليء بالهتافات المطلبية يحتاج إلى طبقة متعلمة تعرف كيفية التنظيم والمطالبات. وهذا لن يتوفر في الهامش، لأنه ظُلِم من ذات المركز الذي يمثل دولة 1956، فحُرم من التعليم ومن أغلب الخدمات الأساسية.
لذلك لا توجد في أيديهم سوى وسيلة واحدة للتغيير، وهي السلاح والقتال. فهم مجموعات حُرِمت من التعليم وتم تجهيلها وتهميشها، ولا تعرف لغة للتغيير خلاف السلاح. لذلك تغيير السودان من قديم إلى سودان جديد سيأتي من الهامش وبصورة مسلحة.
هي أول محاولة لتغيير السودان القديم إلى سودان جديد تأتي من خارج المركز. ومهما صادم الذين يحملون السلاح من الهامش دولة 1956، سيزدادون في المصادمة، لأنهم ليس لهم امتيازات تاريخية تمنعهم من الاستمرار أو تأمرهم بالتوقف. هم يخوضون عملية تغيير ضد أصحاب الامتيازات، لذلك سيستمرون.
عكس المحاولات السابقة في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018 التي قادها أهل المركز من الطبقات المتعلمة وعَضُم دولة 1956، وأوقفتهم الامتيازات عن الاستمرار لإسقاط السودان القديم، ففشلت كل محاولات الحراك السلمي.