قراءات

حسن عبدالرضي يكتب: نحو وعي جديد وتكامل استراتيجي

سودان ستار

قراءة في كيفية بناء علاقات سودانية واعدة ولعب دور إقليمي رائد

 

الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الوعي، فأصبحنا نشهد تعافيًا تدريجيًا من علل فكرية مزمنة طالما أثقلت الخطاب الثقافي والسياسي السوداني لعقود، وعلى رأسها التخوين والتقليل من الرأي الآخر. إن اتساع مساحة النقاش الحر اليوم حول قضايا شائكة—كالعلاقات مع بعض دول الجوار—دون الانزلاق إلى الاتهامات المجانية، يُعد مؤشرًا مهمًا على هذا التحول الإيجابي، بل هو من ضرورات المرحلة.

 

لطالما مثّلت العلاقة بين السودان ومصر، على سبيل المثال، موضوعًا شائكًا ومحل جدل عاطفي وسياسي، تغذّيه تعقيدات الجغرافيا والتاريخ، وتراكمات إرث استعماري وسوء إدارة لاحق. وقد أُهملت ملفات حساسة، كقضية الحدود والسيادة، دون معالجات عادلة أو تفاهمات استراتيجية. غير أن إعادة فتح هذه الملفات اليوم يجب ألا تكون بوابة لصراع جديد، بل منصة لبناء تكامل مستند إلى المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.

 

علينا استثمار الجغرافيا والتاريخ كرافعتين للانتقال من التنازع إلى التعاون. فحلايب وشلاتين ليستا فقط أراضٍ متنازع عليها، بل تمثلان نقطة تماس بين شريانين حضاريين بالغَي الأهمية. الجغرافيا لا تكذب؛ هذه المنطقة غنية بالموارد، ذات موقع استراتيجي يربط وادي النيل بالبحر الأحمر والقرن الإفريقي، وتكتسي أهمية اقتصادية وعسكرية كبرى. ورغم تمسكي بسودانية هذه الأرض، فإن دعوتي لتحويلها إلى منصة للتكامل لا تنبع من ضعف، بل من وعي استراتيجي يُعلي مصلحة البلدين.

 

لقد أخطأت بعض الأنظمة السابقة، وعلى رأسها نظام الإنقاذ، حين وقعت في فخ المقايضة السياسية في لحظة ضعف، ففرّطت في الأرض طمعًا في النجاة من تداعيات محاولة اغتيال فاشلة. أما اليوم، فنحن أمام وعي وطني متجدد لا يساوم على الحقوق، ولا يغلق أبواب التعاون.

 

أما في المجال الاقتصادي وتوزيع الفرص، فلابد أن نبدأ بمحاسبة الذات قبل توجيه أصابع اللوم للآخرين. من أكثر القضايا إثارة للغضب الشعبي هي مسألة “استغلال” بعض دول الجوار، ومن ضمنها مصر، للموارد السودانية—استيرادها بأسعار زهيدة ثم تصديرها بعد التصنيع بأثمان باهظة. غير أن جوهر المشكلة يكمن في إدارتنا نحن، لا في من اشترى أو صدّر. إذا كنا نبيع بلا تخطيط، ونهدر بلا رؤية، فلا نلوم من استفاد.

 

يمتلك السودان من المقومات ما يؤهله ليكون لاعبًا رئيسيًا في معادلات الأمن الغذائي العالمي: أراضٍ زراعية شاسعة، مياه نيل، تنوع مناخي، ثروات حيوانية ومعدنية، وموقع استراتيجي بالقرب من أسواق كبرى. ما نفتقده هو الإرادة السياسية، والبنية التحتية، والرؤية الاستراتيجية اللازمة لتفعيل هذا الدور. ومصر، بما لها من وزن ديموغرافي ومؤسسي، قادرة على أن تكون شريكًا حقيقيًا إن بُنيت العلاقة على أسس عادلة ومتوازنة.

 

كما أننا بحاجة إلى ترقية الدبلوماسية بين دول الإقليم من مربع التوتر إلى مربع الشراكة الواعية. فما شهدته العلاقات السودانية المصرية من توترات لم يكن حتميًا، بل كان نتاجًا لغياب الشفافية وافتقاد الدبلوماسية الرشيدة. واليوم، في ظل تحديات مشتركة كالتغير المناخي، وتدفق اللاجئين، والأمن الإقليمي، يصبح التحول من “التحفظ الحذر” إلى “الشراكة الواعية” ضرورة لا خيارًا.

 

الدبلوماسية الذكية لا تُفرّط في الحقوق، لكنها تدرك المصالح. والمصالح المشتركة بين السودان ومصر عديدة: من أمن مياه النيل، إلى الربط الكهربائي، والتكامل الزراعي والصناعي، والتعاون الأمني، ومشاريع البنية التحتية العابرة للحدود.

 

فهل آن الأوان لنخطو بثبات ويقين نحو رؤية مستقبلية واقعية؟

دعوتي لا تحمل أي تفريط، ولا هي إعادة إنتاج لمحاولات رشوة سياسية كالتي مارسها النظام البائد، بل هي نداء عقلاني لصياغة علاقة ناضجة تقوم على قاعدة “رابح–رابح”.

ينبغي أن ننتقل بعلاقاتنا مع الجيران من كونها ملفًا عاطفيًا ملغومًا إلى مشروع استراتيجي يُدار بمنطق العلم والجغرافيا والاقتصاد والدبلوماسية.

 

نحتاج أن نصحو من “نومة أهل الكهف”، وأن نعيد تعريف دور السودان لا كبلد يستجدي المساعدة أو الحماية، بل كمصدر للغذاء، والرؤية التنموية، والإلهام السياسي في محيط مأزوم.

 

وفي الختام، لن نصنع المستقبل بالتعلق بأخطاء الماضي، ولا بالمظلومية المزمنة، ولا بترديد لازمة “ظلموني ظلموني”، بل بالوعي، وبالجرأة على التفكير خارج الصندوق، وبالقدرة على تحويل النزاعات إلى فرص، والخصومات إلى شراكات، والحدود إلى جسور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى