
ليس مستغرباً أن تكون الأنظمة القمعية أكثر خوفاً من الكاميرا من الكارثة، وأكثر فزعاً من تغريدة فضحٍ من وباء قاتل. وهذا بالضبط ما نشهده اليوم في سلوك نظام بورتوكيزان، الذي يبدو أن خوفه من تسريب الحقيقة عن جرائمه يفوق خوفه من تفشي الكوليرا نفسها أو حتى الموت الزعاف.
ففي الوقت الذي تنهار فيه الخدمات الصحية في ولاية الخرطوم، وتنتشر الكوليرا في الأحياء بلا رادع، تتجه قبضة النظام الحديدية نحو الناشطين والمجتمعات المحلية الذين يحملون همَّ الوطن والمواطن. يُضايَق هؤلاء، يُهددون، يُستجوبون، ويُضربون، لا لشيء سوى لأنهم قرروا ألا يصمتوا على المأساة.
الكوليرا: جريمة مغطاة بالجبن والإنكار
لم يكن التعامل مع وباء الكوليرا مجرد إهمال صحي، بل أصبح نموذجًا حيًّا على كيف يمكن للسلطة أن تحوِّل الكارثة إلى جريمة. فبدلاً من إعلان الطوارئ الصحية وتحريك فرق الإنقاذ والوقاية، اختار النظام أن يعلن حربًا على المعلومة.
الناشط علي جيباي، مهندس ومعلم أجيال، روى شهادته المروعة عن تعرضه للاستجواب، التفتيش، الضرب، والإهانة فقط لأنه التقط صورة لمريض تُوفي بالكوليرا أمام مسجد، بعد أن تُرك لساعات بلا إسعاف. لم يكن يطلب شيئًا سوى إظهار الحقيقة ودق ناقوس الخطر. لكن الحقيقة عند بورتوكيزان جريمة.
إذلال ممنهج… وإرهاب بديل للعدالة
في شهادته، نلمس كيف يعمل النظام على إذلال الناشطين وكسر إرادتهم. كيف يُعامل الطبيب، والمهندس، والمعلم، وكل من يرفع صوته بالحق، كما لو كان مجرماً. خمس ساعات من الاستجواب، مصادرة هواتف، تهديد جسدي، وحتى اتهامات بالعمالة للميليشيات، في سيناريو يخلط الأكاذيب بالخوف ليُكمم الأفواه.
أصبح من المعتاد أن من يُصوّر الحقيقة يُتهم بالانتماء إلى الجنجويد، حتى لو كانت الصورة في سياق فضحهم. لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ميدان معركة، ولكن ليس بين قوى متكافئة: فمن طرف هناك الحقيقة، ومن الطرف الآخر نظام لا يملك سوى القمع والمغالطات.
شباب متطوعون… وسلطة تطارد الأمل
ما يفعله النظام هو استهداف مباشر للجان الطوارئ وشباب الخدمات المتطوعين الذين يسدّون فراغاً صحياً كبيراً في ظل الانهيار الشامل. هؤلاء الذين ينقلون المرضى، يؤسسون نقاط إسعاف أولي، وينشرون الوعي، أصبحوا هدفاً للبطش.
السبب؟ لأنهم أظهروا فشل النظام، وفضحوا تجاهله للوباء. النظام لا يريد من ينقذ الأرواح، بل من يُنقذ صورته المهترئة.
ما وراء الإرهاب… خوف من الانهيار
ما يُمارسه نظام بورتوكيزان هو إرهاب سياسي بامتياز، لا غاية له إلا كبت الحقيقة وخنق المبادرات الشعبية. لكن في قلب هذا الرعب، تتضح هشاشة النظام. إنهم مرعوبون من الصورة، من الكلمة، من توثيق الألم. يخشون أن يتحول الغضب الشعبي إلى محاسبة، وأن تُكشف جرائمهم على رؤوس الأشهاد. وهذا لعمر الله، قادم، قادم، ما من ذلك بد.
إن ما لاقاه المهندس علي جيباي ليس حالة فردية، بل يمثل نموذجاً لآلاف النشطاء السودانيين الذين صاروا مهددين لمجرد قيامهم بدور الدولة الغائبة.
كلمة أخيرة
عندما يصبح الهاتف المحمول أخطر من الوباء، فاعلم أنك في دولة تقتل الحقيقة قبل أن تُنقذ الأرواح.
وعندما يُضرب ابن لواء طيار في جيش السودان لأنه التقط صورة، فاعلم أن الوطنية لم تعد تُقاس بالخدمة، بل بالطاعة العمياء.
نحن اليوم لا نواجه الكوليرا وحدها، بل نواجه وباء الكذب، وأخطر منه… نظام يعتبر الحقيقة عدوه الأول.
“العفو والعافية”… كتبها علي جيباي في نهاية رسالته، وهو يعلم أن مصيره بات مهدداً. لكنها ليست كلمات يأس، بل كلمات شهيد محتمل كتب وصيته كي تبقى الحقيقة حيّة.
ونحن نقول: لا سلام إلا بفضح القتلة، ولا وطن إلا بحرية الحقيقة.