
قبل الوقوف على الإجراءات التي اتخذتها جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة ليبيا تجاه السودانيين الذين هاجروا مؤخرًا بسبب الحرب، دعونا نلقي نظرة على سياق الحرب والأسباب التي تدعو حكومة بورتسودان بقيادة برهان إلى الطلب من هذه الدول إنهاء إقامات السودانيين المهاجرين.
من المعلوم أن حملات الاستنفار التي دعت لها الحركة الإسلامية باسم المقاومة الشعبية قد فشلت في تحشيد المواطنين، خاصة في نهر النيل والجزيرة والقضارف والنيل الأبيض. فشلت هذه الحملات لأن المواطن أُجبر على حمل السلاح أو اتُّهم وعُرض وتعرّض للمضايقات والسجن والتخوين. وجاء فشلها كذلك لأن الاستنفار يقوم على عقيدة الحركة الإسلامية التي استنفذت قدرتها على الاستمرار مع نظام البشير. فليس من المعقول تحشيد المواطنين واستنفارهم لاستعادة نظام الإنقاذ الذي أُسقط قبل سنوات قليلة. بعد فشل المقاومة الشعبية وعملية التجنيد الإجباري، عملت الحركة الإسلامية على تجنيد ميليشيات عرقية وقبلية وجهوية، منها حركات شرق السودان تحت قيادات “الأمين داوود، وبيتاي، ودنيا وغيرهم”، وكذلك ميليشيا من الهوسا بقيادة خالد ثالث، وميليشيا الشكرية بقيادة كيكل، وميليشيا الزبير بن العوام وهي مكونة من الكواهلة ومليشيا وأولاد قمري بدنقلا. إن سيطرة وتوسع الميليشيات القبلية والجهوية أصبح يهدد الحركة الإسلامية، خاصة جناحها الأبرز كتيبة البراء بن مالك، لأن الميليشيات القبلية والجهوية ذات بعد براغماتي وضيق في مفهومها ومحدودة في مطالبها وترفض التوسع خارج حدودها، وحركات شرق السودان كمثال بارز.
لذلك، بعد ظهور هذه الميليشيات القبلية والجهوية وتناميها، أصبحت تهديدًا للتحالف القائم بين الحركات القبلية الجهوية وتنظيم الحركة الإسلامية، خاصة مع تنامي قوة الدعم السريع القتالية وإدخالها لأدوات جديدة في الحرب، من سلاح مضادات الطيران والمسيرات الاستراتيجية وتدريبها لأعداد كبيرة من المقاتلين وإدخالها لآليات حديثة بأعداد كبيرة تمهيدًا للمرحلة الثانية من الحرب.
ولعل هذه المشكلة دفعت حكومة بورتسودان إلى مخاطبة مصر، التي هاجر إليها أكثر من مليون وربع المليون شخص بعد الحرب، وكذلك المملكة العربية السعودية التي هاجر إليها حوالي نصف هذا العدد رغم أنه لا توجد إحصاءات رسمية، للعمل على عودة السودانيين وإنهاء إقاماتهم للمشاركة فيما سُمي بـ “حرب الكرامة” بعد نفاد المخزون البشري للمجندين وفشل الاستنفار كما أسلفنا القول.
لنلقي نظرة على الإجراءات التي اتخذتها مصر ضد المهاجرين السودانيين:
يبلغ عدد السودانيين الذين هاجروا إلى مصر منذ حرب 15 أبريل وحتى الآن مليونًا و200 ألف شخص، وقد اتُخذت عدة إجراءات كأسباب للترحيل، منها:
* تجديد إجراءات الإقامة، خاصة أن حكومة مصر قامت بحملات التحقق من الإقامات السارية، خاصة على الذين دخلوا بطريقة غير شرعية.
* إلغاء تراخيص العمل للسودانيين.
* إبعاد السودانيين لأسباب سياسية، منها المضايقة لمن لا يؤيد حكومة بورتسودان وعلى كل الذين يتحدثون عن قضية حلايب وشلاتين.
* تمت عدة رحلات بإيعاز من سفارة بورتسودان بالتنسيق مع حكومة مصر لتسهيل إجراءات الترحيل.
* بحسب منظمات حقوقية منها منظمة العفو الدولية ومنصة اللاجئين في مصر، فقد تم احتجاز آلاف السودانيين في قواعد عسكرية سرية قرب الحدود في أسوان وأبو سمبل قبل ترحيلهم عبر معبري أشكيت وأرقين.
* لا يُسمح للاجئين بالتواصل مع مفوضية اللاجئين ولا الطعن في قرارات الترحيل رغم حيازتهم لبطاقات اللاجئين، مما ينتهك القانون الدولي.
* الأسوأ من ذلك، يتم اعتقال السودانيين أثناء تلقيهم العلاج في المستشفيات في أسوان ونقلهم إلى مراكز الاحتجاز غير الإنسانية.
* هناك إجراءات اتخذتها وزارة النقل المصرية بالتعاون مع الجيش المصري بتنظيم حافلات ترحيل بقيم رمزية إلى معبر أشكيت.
* نظمت وزارة النقل المصرية والهلال الأحمر حركة العائدين مع زيادة أعداد العاملين في المعابر.
* عملت سفارة بورتسودان على برنامج عودة يشمل تسوية الغرامات والمخالفات.
* نظم نشطاء موالون لبورتسودان مبادرة “راجعين لبلد الطيبين” للعودة إلى الخرطوم وأمدرمان.
يشكل السودانيون في مصر نسبة 61% من طالبي اللجوء المسجلين في مصر وهم 731,000 شخص في عام 2024، إضافة إلى 250,000 في انتظار التسجيل.
خلاصة القول بالنسبة لعمليات الترحيل القسري من جمهورية مصر، تتم في ظروف احتجاز غير إنسانية وإجراءات تعسفية تنتهك القانون الدولي بالنسبة للاجئين والمهاجرين. أما بالنسبة للعودة الطوعية والتسهيلات التي تتم، فتقوم على الدعاية الكاذبة والخدع، خاصة لمن يعانون من ظروف اقتصادية قاسية، خاصة لأرباب الأسر الذين فقدوا مدخراتهم ولم يتمكنوا من إيجاد فرص عمل.
الإجراءات التي اتخذتها المملكة العربية السعودية
وضعت المملكة العربية السعودية ضوابط وإجراءات جديدة للزيارة العائلية وفرضت غرامات على المخالفين تبلغ 15,000 ريال بعد أن كانت 700 ريال في السابق، إضافة إلى الحظر لمدة ثلاث سنوات للمخالفين. تؤكد هذه الإجراءات أن هناك إيعازًا من حكومة بورتسودان بإرجاع السودانيين المهاجرين إلى المملكة العربية السعودية تحت قطاع الزيارات العائلية، وأن هذه الإجراءات يمكنها أن تستعيد مئات الآلاف مما يمكن جيش الحركة الإسلامية من تجنيد الأعداد الكبيرة القادمة من المملكة.
أما بالنسبة لدولة ليبيا، فقد تحدث عدد من المسؤولين من حكومة طرابلس بضرورة عودة السودانيين إلى بلدهم.
إن هذه الإجراءات التي اتخذتها الدول بطلب غير مُعلن من حكومة بورتسودان، الغرض منها إعادة المواطنين إلى مناطق مدمرة ومنعدمة الخدمات، لا لتحقيق الاستقرار بل لهدف حشدهم للتجنيد العسكري ومواجهة المرحلة الثانية من الحرب كما أسلفنا القول.
أما عمليات التجنيد القسري التي تجري في مناطق التعدين بعيدة عن أعين الإعلام والرقابة، حيث تقوم عدد من الميليشيات، خاصة من الحركات المسلحة، بالهجوم على مناجم التعدين في نهر النيل والبحر الأحمر والشمالية والاستيلاء على مناجم الذهب وأخذ العمال وتجنيدهم بصورة قسرية تبدأ بالاتهامات والاعتقال ثم تنتهي بالتجنيد. خاصة أن مناطق تعدين الذهب تحتفظ بمئات الآلاف من العمال الذين ذهبوا إلى مناطق التعدين لإعالة أسرهم، وغالبًا هم من مناطق كردفان ودارفور.
أخيرًا، تكمن خطورة الإجراءات التي اتخذتها الحركة الإسلامية وجيشها بقيادة برهان في تهجير المواطنين عكسيًا من اللاجئين والهاربين من جحيم الحرب إلى دول الجوار، في أن هذه العودة تجبرهم على خوض الحرب مكرهين. فإذا كانت المرحلة الأولى من الحرب تدميرًا، فإن المرحلة الثانية ستكون هلاكًا لملايين البشر.