لم يكن سقوط مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، مجرد حدثٍ عسكريٍ في حرب أهلية بعيدة، بل كان بمثابة “نقطة تحول استراتيجية” وزلزال جيوسياسي، ترددت أصداؤه بقوة على ضفاف النيل في القاهرة ، هذا التطور الدراماتيكي لا يعلن فقط عن مرحلة جديدة من الخطر المحدق بالأمن القومي المصري، بل ينذر بسيناريو أكثر قتامة يتمثل في “تقسيم فعلي” للسودان، حيث يسيطر الجيش على الشرق وقوات الدعم السريع على الغرب ، فالروابط بين مصر والسودان لا تُختزل في حدود جغرافية، بل هي نسيج معقد من التاريخ والمصالح الحيوية والمصير الواحد، الذي يجعل من استقرار السودان ووحدته جزءاً لا يتجزأ من استقرار مصر السياسي والأمنيّ والاقتصادي والاجتماعي والعسكري .
إن الأهمية الاستراتيجية للسودان بالنسبة لمصر تتجاوز كونه مجرد جارٍ جنوبي؛ فالاستقرار في السودان هو صمام أمان مصر . والآن، مع سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر التي تبعد نحو 600 كيلومتر فقط عن الحدود المصرية، ووصول نفوذها إلى المثلث الحدودي بين ليبيا وتشاد، يتحول التهديد من مجرد قلق إلى خطر مباشر ،وكما يوضح خبراء أمنيون، فإن هذا الوضع يفتح المجال أمام شبكات التهريب وتحركات الجماعات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الإفريقي، ويمنح قوات الدعم السريع مصادر تمويل ضخمة تحولها من مجرد ميليشيا إلى شبه جيش نظامي.
إن الانتهاكات المروعة والقتل الممنهج في الفاشر، والانسحاب الذي وصفه الخبراء بـ”العشوائي” للجيش، والذي ترك آلاف المدنيين والجنود تحت رحمة الدعم السريع، يدق ناقوس الخطر بأن طبيعة الصراع قد انزلقت إلى مستوى من الوحشية يهدد بتفكيك الدولة السودانية بأكملها.
تدرك القيادة المصرية جيداً أن تفكك الدولة السودانية هو “خط أحمر” لا يمكن السماح بتجاوزه، وهو ما صرح به وزير الخارجية المصري بوضوح. إن وصول الفوضى إلى المناطق الشمالية من السودان يعني تحول الحدود الجنوبية لمصر إلى وضع “أكثر اشتعالاً”. ولهذا، يتوقع المراقبون أن تضع القاهرة خطوطاً حمراء جديدة أمام أي تحرك لقوات الدعم السريع باتجاه الحدود، وأن تكثف من حراكها الدبلوماسي لاحتواء الأزمة. فمصر لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى عمقها الاستراتيجي ينهار، أو أمنها القومي يتعرض لخطر داهم. كما أن تداعيات الحرب على حوض النيل تمثل مهدداً آخر لا يقل خطورة، فعدم الاستقرار في السودان يضعف الموقف الموحد للدولتين تجاه قضايا المياه الحيوية.
في الختام، يمكن القول إن سقوط الفاشر هو إنذار شديد اللهجة بأن استقرار مصر بات مرتبطاً أكثر من أي وقت مضى بما يحدث في السودان. فما يجري على أرض السودان اليوم لا يقرر مصير شعبه فقط، بل يرسم أيضاً ملامح المستقبل للمنطقة بأسرها ،وفي ظل حديث يدور حول إمكانية أن يكون الاعتراف الدولي بقائد الدعم السريع “حميدتي” قراراً “جيوسياسياً” لا “أخلاقياً” كونه فرض أمراً واقعاً، تجد مصر نفسها في مواجهة تحدٍ تاريخي يتطلب حكمة وحزماً للحفاظ على أمنها ومصالحها العليا في ظل هذه العاصفة التي تعصف بوادي النيل.













