كشأن الكثيرين من أبناء وبنات هذا الوطن ، يستبدّ بي الحنين إليه، كلما شط المزار. فأعود أبحث عما يذهب عنِّي حُرقةالشوق . فأدندن. والغناء بكل ضروبه، طالما حملنا على أجنحة من ضياء إلى دنيا الصبا ومراتع الذكريات. فيبدو للنفس في لحظة عابرة أنّ ما أضفاه الغناء والموسيقى على النفس من بهجة هو الدواء من داء الحنين الجارف للوطن وللأهل والأحباب. لكن متى خبا رنين الموسيقى وسكت صوت المغني ، عاد جمر الحنين ولهيب النوستالجيايا. وتمددت بطاح الوطن وفيافيه في داخلنا أرضاً من الشوق والحب والذكريات بلا نهاية..
قمت نهار اليوم – الاثنين 3 نوفمبر 2025، وقد أضناني الحنين – كما أسلفت – إلى عالم سرقه مني ومن الملايين هواة القتل وسارقي قوت الأرامل والأيتام في هذا الزمان القاسي. قمت ألتمس في فن التطريب راحة بال ولو لهنيهة من الوقت. وأنا من عشاق حنجرة النيل الثالث – كما يطلق عليه محبوه – عثمان حسين. ويصل بي الطرب منتهاه حين يقترن غناء عثمان حسين بكلمات توأمه في التطريب شاعر الحب حسين بازرعة. ليس في ذلك ما ينقص عندي من عمالقة التطريب في تاريخ فن الغناء في بلادنا. لكن للمزاج مراميه التي لا نعرف مبدأها ومنتهاها. وفي لحظة انداح صوت عثمان حسين العذب بكلمات بازرعة: :
حبنا أكبر من الدنيا ** وأطول من سنينا
فيه من وطني المسالم ** كل طيبة وأغلى زينة
فيه من عاطفتي معنى * الإلفة والعشرة النبيلة
وقد صدق ظني .. اذ تمدد الوطن في داخلي براحات من الشوق والحنين والإلفة. إنداح الوطن سنواتٍ من الصداقات الأصيلة في عمر عشته مع خليط من الرجال والنساء، ومع الكبار والصغار. في الجيرة وفي الحل والترحال. وكلما غمرت الموسيقى كلمات الأغنية بالشجن تمدد الوطن في داخلي وانداح عالما من الشوق والحنين بلا نهاية. وإما صمت اللحن وجدتني غريب الوجه واليد واللسان كما قال أبو الطيب المتنبي في بلاد طيرها أعجمي! ولأن الكتابة كما يقولون هي تعويض عن الإحساس بالفقد ، فقد أويت إليها. كتبت إلى نفر من الأصدقاء والصديقات ممن يواسون جراحي في عالم الاسافير بضع أسطر ، مرفقاً اللحن موضع كلامي هذا، لعلي أقرأ منهم تعقيباً يشفي البراح. وأطمئن به على وطن سالت الدماء فيه أنهاراً مذ سرق السلطة فيه خفافيش الظلام ذات ليلة قبل نيف وثلاثين سنة. من يومها والحرب والموت الرخيص ديدنهم. حرب باسم الله الرحمن الرحيم. حرب على الآخر الذي حسبوا أن الله أوكلهم ليدخلوه عنوة في دين الله..ناسين أن الله هو القائل لنبيه في الآية 99 من سورة يونس: (ولوْ شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جَميعاً ، أفأنْتَ تُكرِهُ النّاسَ حتّى يكونوا مؤمنِين؟) لكن الحرب على إنسان كان قطعة من الوطن تحت مسمّى الجهاد ، ماكانت سوى حرب لأجل كعكة السلطة ونعيم المال والجاه. لذا وحين أدت حربهم الجهادية غرضها وانتهت بذهاب بعض الوطن إلى حيث لا عودة فقد اخترعوا حرباً جديدة اليوم لتردّهم إلى السلطة التي أسقطتها وأزالت قناعها ثورة ديسمبر السلمية . اخترعوا حرباً جديدة يلعب فيها دس سم التفرقة بين العشائر وأقاليم ومدن وقرى الوطن الواحد الدور الأساس في إسالة الدماء وهدم بنيان وحدة دفع ثمنها رتل من الشهداء من الرجال والنساء والأطفال من لا نزكيهم على خالقهم. فهم أكرم وأشرف منا جميعاً. ولأن من أودوا بحياتهم عصبة من القتلة وسافحي الدماء ، من ليس الوطن في عرف تنظيمهم سوى قطعة أرض عابرة ، ولأننا نحن في الضفة الأخرى للساحة شعب يحب هذا التراب ويفنى من أجله ، فإن النصر سيكون حليفنا بإذن الله. فما من عصابة هزمت شعباً. . نحن في عصر الأمم والشعوب. وثورة شعب السودان السلمية – والتي كانت وما تزال حديث القاصي والداني ، والتي أشعلوا هذه الحرب البشعة ليسكتوا صوتها الداوي ثورة شعبنا هذه لن يخمد أوارها ابدا. فالثورات مثل نهر التاريخ ، لا تسير في خط مستقيم. بل تصمت حيناً ثم يندلع عنفوانها أكثر من ذي قبل، ولنا في ثورات التاريخ المعاصر أمثلة. هل نسمي الثورة الفرنسية – الثورة الأم لثورات العصر الحديث- والتي قال رئيس فرنسا في حق ثورتنا بأنها تشبه الثورة الفرنسية؟ هل نستدعي ثورات التحرر في قارتنا البكر أفريقيا بقيادة نكروما وثورة الماوماو بقيادة جومو كنياتا؟ أم نستدعي ثورة شعب جنوب أفريقيا بقيادة أسطورة النضال نلسون مانديلا ورفاقة والتي جعلت نظام الفصل العنصري البغيض ينزوي فصلاً سيء السمعة في دفتر تاريخ البشرية؟ كاتب هذه السطور واثق تماماً بأن الجولة الأخيرة في هذا الصراع المرير في السودان ستكون الغلبة فيها لشعبنا ، ولن يكون ذلك بعيداً بأي حال. كلام الإسلامويين عن الشعب وعن الوطن . .والأكذوبة الكبرى والمغلفة بهتافات (جيش واحد .. شعب واحد).. وضخ الأكاذيب أكاذيب عبر الإنترنت ، صباح مساء بما لا يحصى ، لن يجعل نهر التاريخ يلوي مساره للوراء. شعبنا سينتصر. وستولد الدولة المدنية ،لتقيم وطناً يتساوى فيه الناس من كل ملة وعشيرة. ومن كل معتقد وعنصر ولون. سنبني أمة تشبه قوس القزح في جمال وتناسق الوانه على اختلافها. وفوق ذلك فإننا سنحيا نابذين للحروب. وسنقف ضد دعاة الحرب والموت المجاني الرخيص. أعود لما بدأت به مختتماً خاطرتي هذه بأني تلقيت ردودا تفاوتت حسب الحالة النفسية للأصدقاء والصديقات الذين بعثت إليهم بكلمات بازرعة التي شدت بها حنجرة عثمان حسين. توقفت وأعدت المقطع الذي يقول:
فيه من وطني المسالم ** كل طيبة وأغلى زينة
سلام عليكما يا بازرعة ويا عثمان حسين في الخالدين. سنحاول جهد ما نستطيع أن نحب هذا الوطن المسالم قدر ذرات ترابه، وبعدد النجوم التي ضاءت سماءه ، ومقدار ما قال فيه بنوه الشعراء وبناته الشاعرات من من كلمات الحب.. وسجع الغناء. سنحبه وسنعلم أبناءنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا أن يعيشوا محبين لهذا الوطن (المسالم). وإن لم يقدروا على دحر من لا يرعوون عن سفك دماء أبناء وبنات هذا الوطن المسالم فإن باطن الأرض في هذه الحالة لكل حر من ظاهرها. همسة أخيرة في أذن من يحب هذا الوطن: لا تصدقوا أنّ أحداً يحب وطناً تسيل دماء أبنائه وبناته كل يوم ..تسيل دماء شيوخه وشبابه ، نسائه وأطفاله ، وهو يصرخ ملء أوداجه وشدقيه ، ويهلل أن تستمر الحرب! إنسان بلادنا ليس مختبراً للحروب. فلنقف صفاً واحداً ضد الحرب. ولتقف حرب المليشيات وجيش المليشيات اليوم قبل الغد. لا للحرب..نعم للسلام! فضيلي جماع
لندن
				
					











