Uncategorizedمجتمع

حملة آمنات: بسبب كونهن نساء في بئات صراعية

سودان ستار

جراح تمشي وتاريخ منسي

بسبب كونهن نساء في بئات صراعية

 

(1)

تأتي بلا استئذان،

تطرق أبواب الطمأنينة،

وتقتحم الحكايات،

كأنها ريح سوداء،

تسرق الضوء من عيون الأمهات.

 

في الحرب لا تكتب النساء التاريخ لكنهن يصنعنه بألمهن، بصمودهن، بصلواتهن التي تبقى وحدها بلا صوت، باحتمالهن الفقد، الخيبة والنسيان.

في زوايا الحروب المعتمة، حيث يسود الصمت الملطّخ بصخب الرصاص، تُترك النساء وحدهن في مواجهة الطوفان. لا يحملن السلاح، لكنهن يتلقين الطعنات من كل الجهات. تُنهب كرامتهن كما تُنهب البيوت، وتُستباح أجسادهن كما تُدكّ المدن. يتحمّلن ثقل الخراب على أكتافٍ أنهكها الانتظار، وينسجن الأمل من دموعٍ لا تجد من يجففها. في الحروب، تُنسى النساء في صفحات التاريخ، لكن أنينهن يظل يتردد في ذاكرة الأرض، شاهداً على ظلمٍ لم ينصفه العدل يوماً، لسن فقط ضحايا، بل هن جراحٌ تمشي، وتاريخٌ منسيّ ينتظر أن يُروى.

أخرجت حرب الخامس عشر من أبريل أسوأ ما يرتبط بفعل السلاح والعنف كمثال على بشاعة الحروب ومشعليها، حيث عُلّقت القوانين على جدران الصمت ومُحيت الحقوق تحت أقدام البنادق. لكن للنساء، حتى وسط الرماد، حقوق لا يجب أن تسقط بالتقادم، بل لا يجب أن يُسمح لها أن تسقط. لهن حق في الأمان، في جسدٍ لا يُدنّس، في بيتٍ لا يُهدم فوق ذكرياته، في وطنٍ لا يُختصر في خريطة، ولا يُسرق منها عُنوةً. لها حق في الحياة دون خوف، في صوت يُسمع حين تصرخ من الوجع، لا أن تُخنق خلف ستار العار. يجب ألا تُساوى بالحطام، ولا تُعدّ من الخسائر الجانبية. لها حق في العدالة، في مساءلة من ارتكب في حقها الجرائم، ومن صادر منها الحلم والأمان، لها حق في أن تكون شاهدة لا مفعولًا بها، في أن تكتب روايتها بنفسها، لا أن تُختصر في سطر حزين بآخر التقرير. في الحروب، لا تُخلق العدالة، لكن لا بد أن نزرع بذورها في صرخة امرأة، وفي دمعة أم، وفي انتظار غائبة تعود حرة، لا مكسورة.

اتضح جليًا من خلال العديد من تجارب السودانيين في الحروب أنها، حين تشتعل، لا يشتعل فقط البارود، بل يشتعل الصمت أيضًا… الصمت عن الجرائم التي تُرتكب في حق النساء، الصمت عن مناصرتهن وإنصافهن. بات الصمت يشمل حتى الوصول إلى أرقام حقيقية توضّح حجم من تعرضن للقتل، للاغتصاب، للإذلال، وللاستعباد. الصمت عن وضع جدار يحمي استخدامهن كأدوات للقهر والانتصار، وكأن الحرب تبرّر كل شيء، حتى الوجع.

لكن التاريخ، رغم سواده، لم يغفل تمامًا صرختهن.

فمنذ الحربين العالميتين، بدأت أنظار العالم تتجه نحو النساء لا كضحايا خفِيّات، بل كأطراف متأثرة تستحق الحماية والعدالة، فكان عام 1949 شاهدًا على اتفاقيات جنيف، التي نصّت في موادها على حماية النساء أثناء النزاعات المسلحة، باعتبارهن مدنيّات لهن الحق في الكرامة، والأمان، وعدم التعرّض للاغتصاب أو المعاملة المهينة ومع بداية الألفية الجديدة، صدر القرار الأممي 1325 عن مجلس الأمن، معترفًا بالدور الحيوي للمرأة في السلام والأمن، ومؤكدًا على ضرورة إشراكها في صنع القرار، ومحاسبة مرتكبي العنف ضدها في أزمنة الحرب.

لكن رغم القوانين، ظل التطبيق هشًا، وظلت النساء في ساحات الصراع أهدافًا سهلة، تُغتصب أجسادهن ويُهدم استقرارهن، في البوسنة، في رواندا، في العراق وسوريا، في فلسطين، والسودان الجنوبي والشمالي… كل حرب خلّفت وجعًا أنثويًا لا يُحصى.

القانون أنصف على الورق، وصُمّم النص في صياغة لغوية مرضية، لكن العدالة الحقيقية لا تزال غائبة في عيون كثيرات، ينتظرن أن يتحوّل الاعتراف إلى فعل، وأن تتحول القوانين إلى درعٍ يحمي، لا ورقة تُقرأ ثم تُطوى.

 

إن الحروب لا تقتل فقط من يسقطون على الأرض، بل تقتل أيضًا من يُجبرون على العيش بعدها محطّمين. وفي قلب هذه المأساة، تقف المرأة كشاهدة وجريحة، كمقاتلة بلا سلاح، وكضحية بلا محكمة. لا يكفي أن تُكتب القوانين، ولا أن تُلقى الكلمات في المؤتمرات، ولا أن تُردد على ألسنة السياسيين، ولا أن تُنمّق لتصبح شروطًا في بنية التحالفات، بل لا بد من إرادة إنسانية حقيقية تُعيد للمرأة كرامتها، وتحميها حين تصمت المدافع وينسى العالم أسماء من سقطن.

المرأة ليست مجرد رقم في تقارير الضحايا، وليست هامشًا في كتب التاريخ. هي مركز الحكاية، وروح الأرض، وقلب الوطن، ومدخل التعايش والإنصاف. فإذا لم يُصغِ السودان والسودانيون لصرختها في زمن الحرب، فلن يكون لسلامه يومًا أي معنى.

 

محمد خليل اب وردة

مركز أوراق لدراسات السلام والتنمية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى