
تقرير : الكاظم هــرون
في خطوة تحمل دلالات سياسية وإستراتيجية عميقة، فرضت وزارة الخزانة الأميركية، عبر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، عقوبات جديدة على شخصيات وكيانات إسلامية سودانية وُصفت بأنها “مزعزعة للاستقرار ومرتبطة بإيران”، وشملت العقوبات وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم محمد فضيل، وكتيبة البراء بن بن مالك (BBMB)، باعتبارهما جزءًا من شبكة معقدة تغذي الحرب الأهلية السودانية وتفتح الباب أمام نفوذ إيراني متصاعد في منطقة شديدة الحساسية جيوسياسيًا.
سياق العقوبات الأميركية
جاءت العقوبات في وقت يشهد السودان إحدى أعنف حروبه الداخلية بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، منذ إندلاع المواجهات في أبريل 2023، وبحسب تقديرات أممية، أودت الحرب بحياة 150 ألف شخص، وشردت أكثر من 14 مليون مدني، لتصبح واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
وقالت وزارة الخزانة الأميركية إنّ الهدف من هذه العقوبات هو ”إضعاف النفوذ الإسلامي داخل السودان، وكبح أنشطة إيران الإقليمية، ومنع تحوّل البلاد إلى ملاذ آمن لقوى تهدد الأمن الأميركي والدولي“.
وأكد وكيل الوزارة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، جون هيرلي، أن الإسلاميين السودانيين أقاموا تحالفات خطيرة مع إيران، مضيفًا: ”لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التحالفات، إن وزارة الخزانة ستستخدم أدواتها القوية لتعطيل هذا النشاط وحماية الأمن القومي الأميركي“.
جبريل إبراهيم في قائمة العقوبات
الأسم الأبرز في لائحة العقوبات هو جبريل إبراهيم، وزير المالية الحالي ورئيس حركة العدل والمساواة (JEM)، وهي حركة مسلحة نشأت في إقليم دارفور ولها جذور فكرية وسياسية عميقة مع المشروع الإسلامي الذي قاده الراحل حسن الترابي.
وتشير التقارير الأميركية إلى أنّ جبريل قاد آلاف المقاتلين للانخراط في المعارك، مما تسبب في دمار مدن وقرى ونزوح جماعي للمدنيين، كما تتهمه واشنطن بالتعاون مع إيران، من خلال زيارات رسمية إلى طهران واتفاقيات اقتصادية وسياسية تهدف إلى تعزيز النفوذ الإيراني في السودان.
كتيبة البراء بن مالك على خط إيران
الكيان الثاني المشمول بالعقوبات هو كتيبة البراء بن مالك (BBMB)، وهي مليشيا إسلامية مسلحة تعود جذورها إلى قوات الدفاع الشعبي التي أنشأها نظام البشير، تضم الكتيبة ما يقدّر بـ 20 ألف مقاتل، وقد شاركت بفعالية في النزاع الدائر ضد قوات الدعم السريع.
وبحسب وزارة الخزانة الأميركية، يتلقى مقاتلو الكتيبة دعمًا تدريبيًا وتسليحيًا من الحرس الثوري الإيراني (IRGC)، وقد تورطوا في “إعتقالات تعسفية، وتعذيب، وإعدامات بإجراءات موجزة”.
الخارجية الأميركية: منع عودة الإسلاميين إلى السلطة
لم تكتف واشنطن بالعقوبات المالية، بل أصدرت وزارة الخارجية بيانًا أكدت فيه أنّ “السياسة الأميركية تقوم على منع عودة الإسلاميين السودانيين إلى السلطة”.
وأوضحت أن الحكومة الأميركية ستواصل استخدام كافة أدواتها لضمان عدم استغلال الإسلاميين لحالة الفوضى لإعادة تموضعهم، مشيرة إلى ارتباطهم بسنوات الاستبداد في عهد البشير.
مجلس الأمن: إجماع على العقوبات وتجديد ولاية الخبراء
وفي موازاة التحركات الأميركية، اعتمد مجلس الأمن الدولي قرارًا بالإجماع يقضي بتمديد العقوبات المفروضة على السودان حتى سبتمبر 2026، شاملًا حظر السلاح وتجميد الأصول وحظر السفر. كما جدد المجلس ولاية مجموعة الخبراء حتى أكتوبر 2026، في إشارة إلى استمرار الإهتمام الدولي بالملف السوداني رغُم تعقيدات المشهد العالمي.
موقف الرباعية الدولية
على صعيد متصل، أصدرت الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، الإمارات) بيانًا مشتركًا عقب مشاورات وزارية موسعة، أكدت فيه أن النزاع السوداني بات “أخطر أزمة إنسانية في العالم”، ويهدد الأمن الإقليمي، ويضمن بيان الرباعية خمسة نقاط رئيسية:
– التأكيد على سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه.
– رفض أي حل عسكري باعتباره غير قابل للاستمرار.
– ضرورة وصول المساعدات الإنسانية بشكل سريع وآمن ودون عوائق.
– إنتقال سياسي شامل وشفاف يقوده السودانيين، بعيدًا عن سيطرة الأطراف المتحاربة والجماعات المتطرفة.
– وقف الدعم العسكري الخارجي الذي يغذي النزاع.
كما دعت الرباعية إلى هدنة إنسانية أولية لثلاثة أشهر تمهيدًا لوقف دائم لإطلاق النار، يليها إنتقال سياسي شامل خلال تسعة أشهر يؤدي إلى حكومة مدنية ذات شرعية واسعة.
قراءة رسائل متعددة المستويات
للإسلاميين السودانيين: العقوبات رسالة مباشرة بأن العودة إلى المشهد السياسي عبر القوة أو عبر التحالفات الخارجية لم تعد ممكنة.
لإيران: إشارة واضحة بأن تمددها عبر السودان لن يُسمح له بأن يتحول إلى قاعدة إقليمية تهدد البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
للقوى الإقليمية: خصوصاً مصر والسعودية والإمارات، فإن التنسيق الرباعي مع واشنطن يعكس توافقًا على تحجيم الإسلاميين وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية.
للسودانيين المدنيين: تؤكد البيانات الدولية أن المستقبل السياسي يجب أن يُصاغ عبر عملية شاملة تضمن إنتقالًا مدنيًا، بعيدًا عن عسكرة السلطة.
تضع العقوبات الأميركية والتجديد الأممي والتحرك الرباعي ملامح مشهد جديد في الأزمة السودانية: مشهد تتقاطع فيه الاعتبارات الأمنية الأميركية، والهواجس الإقليمية من تمدد الإسلاميين وإيران، والتطلعات الشعبية نحو إنتقال مدني.
لكن يبقى السؤال: هل تنجح هذه الضغوط المتعددة في تغيير سلوك الأطراف المتحاربة داخل السودان، أم أنّ الصراع سيظل رهينة الحسابات الداخلية والرهانات الإقليمية، بينما يواصل المدنيين دفع الثمن الأكبر؟