مقالات الرأي

عزيز الدودو يكتب: الاستهلاك الثقافي والهوية الغارقة

سودان ستار

 

 

لطالما ضحكنا على أنفسنا ونحن نردد بفخر المقولة الشهيرة: “القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ”، وكأنها وسام شرف يُزيّن جبيننا الثقافي. لكننا لم ندرك، إلا متأخرين، أنها كانت في الحقيقة قيدًا ثقيلًا يكبل إبداعنا، بل وإعلانًا صريحًا عن تبعيتنا الثقافية المهينة.

 

فماذا جنينا من كل تلك القراءات إلا مزيدًا من الإستلاب والإنفصام عن ذواتنا؟ لماذا لم تكتب الخرطوم؟ هل جف مداد نهرنا الخالد، أم تكسرت أقلامنا واحترقت صحائفنا؟

 

لقد سطر أجدادنا حضارتهم على أوراق البردي ونقشوها على الصخور الصماء، فكيف تحولنا إلى مجرد مستهلكين لثقافات الآخرين؟

 

الغريب أننا إستقبلنا هذه المقولة بترحاب، وكأنها تكريم لنا، بينما كانت في جوهرها إهانة مُغلفة بالإطراء الزائف. فالأمة التي تستهلك ولا تنتج ثقافةً خاصة بها هي أمة أسيرة، عاجزة عن صياغة وجودها المستقل. لقد حولتنا هذه المقولة إلى كائنات إستهلاكية، تبتلع منتجات الآخرين دون تمييز، بينما تذوب هويتنا الأصلية في بحر الثقافات الدخيلة. والأمر الأكثر إيلامًا هو أن الثقافة العربية نفسها، في كثير من مظاهرها، أصبحت ثقافةً عدوانيةً لا تعرف التعايش مع التنوع، بل تنفي الآخر وتُحاربه بدلًا من أن تثري نفسها به.

 

أليس محزنًا أن ننظر اليوم إلى أقاليم السودان، بثرائها اللغوي المذهل، فلا نجد لغةً واحدةً تمثل هويتنا الحقيقية؟ لقد أُسكرنا بجمال لغات الآخرين حتى سخرنا من لغاتنا المحلية، ووصفناها بـ”الرطانة”! ونتيجة لهذا الازدراء القاتل، انقرضت عشرات اللغات في السودان وأفريقيا، وماتت معها كنوز من الحكايات والأساطير والقيم التي لا تعوض.

 

فالأمة التي تفقد لغتها وتاريخها تفقد روحها، وتذوب في غيرها كما يذوب الملح في الماء. وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم.

 

إذا نظرنا إلى أنفسنا اليوم، فلن نرى سوى ضباب كثيف يخفي ملامح هويتنا، ويجرنا إلى السؤال المصيري: “من نحن؟”

سؤالٌ لا نجد له إجابة واضحة، لأننا أهملنا كتابة تاريخنا بأنفسنا، وصدقنا روايات المستعمرين واختلاقاتهم، فسرقوا منا حتى ذاكرتنا.

هويتنا اليوم شبه منعدمة، أو هي في طريقها إلى الزوال، وكما قال أحد الأدباء: “أصبحنا كنهر منقطع عن منبعه”

 

فهل سنظل مستسلمين لهذا الانقطاع، أم سنبدأ رحلة البحث عن منابعنا الحقيقية؟

 

إن إنقاذ هويتنا يتطلب ثورةً ثقافيةً تعيد الإعتبار لتراثنا الشعبي ولغاتنا المحلية وتاريخنا الوطني، وتحررنا من الإستلاب والإستهلاك الثقافي. فالثقافة الحقيقية لا تُستهلك، ولا تُستورد بل تُخلق وتُنتج محلياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى