إصدارات وكُتاب

د.اسراء الريس: عن رواية الزائف

سودان ستار

رواية “الزائف” للكاتب أحمد الإدريسي، عمل سردي يتجاوز الشكل التقليدي للرواية ليمنح القارئ تجربة فكرية وعاطفية متشابكة، تنفذ إلى عمق الوعي الإنساني، وتثير الأسئلة أكثر مما تقدم الإجابات. هي رواية لا تُهادن ولا تبحث عن التصفيق السهل، بل تواجه، وتشكك، وتفتح جروحًا اجتماعية وروحية لا تزال تنزف في صمت.

 

منذ الصفحات الأولى، يشعر القارئ أنه أمام مشروع أدبي متماسك، مكتوب بوعي عالٍ ومسؤولية فكرية واضحة. ليست فقط حكاية عن قرية نائية تخضع لسلطة دينية زائفة، بل هي مجاز واسع لمجتمعات كثيرة تستسلم لوهم القداسة حين يُستخدم الدين وسيلة للهيمنة وتغليف الاستبداد بثوب الإيمان. في هذا السياق، تتحول الرواية إلى صراع عميق بين المعرفة والخرافة، بين الوعي الجمعي والضمير الفردي، بين من يكتفي بالطاعة، ومن يختار المواجهة.

 

أبرز ما يميز الرواية هو لغتها التي تجمع بين البساطة والعمق، بين التوصيف الحي والتأمل الفلسفي. تُشيد الجمل بهدوء، لكنها تُسقط القارئ فجأة في مواجهات درامية وفكرية مشحونة. هناك عناية كبيرة بتفاصيل البيئة،

الشخصيات، وصوت السارد، دون أن تفقد الرواية زخمها أو انسيابها. الكاتب ينجح في بناء عالم روائي يفيض بالحياة، لكنه في الوقت ذاته يضج بالزيف، وهو تناقض ذكي يخدم فكرة الرواية الأساسية.

 

“شيخ حامد”، الشخصية المحورية في الرواية، ليس مجرد بطل تقليدي، بل ضمير حي وسط عالم مأزوم. مواجهته للسلطة ليست فقط فعلًا فرديًا، بل تمثل رفضًا لأكذوبة جماعية طال صمت الناس عنها. قوته لا تأتي من امتلاك السلطة أو السلاح، بل من امتلاكه للمعرفة والإيمان الحقيقي بقيم الدين كما ينبغي أن يكون: دينًا للعدالة والرحمة، لا للهيمنة والاستغلال. حوله تتشكل شبكة من الشخصيات التي تختلف في تموضعها بين الخوف، الطاعة، التواطؤ، والمقاومة.

 

رغم طابعها المحلي، تنجح “الزائف” في أن تكون رواية إنسانية بامتياز، تعبر الحدود الجغرافية والدينية لتطرح أسئلة وجودية صالحة في كل زمان ومكان: ما الذي يجعل الناس يقدّسون من يستعبدهم؟ كيف تتشكل القداسة؟ ومتى تصبح المقاومة فعلًا لا رجعة فيه، ولو كان الثمن هو المصير كله؟

 

“الزائف” ليست رواية خفيفة أو مجاملة، بل عمل ناضج يضع القارئ في مواجهة نفسه أولًا، وفي مواجهة مجتمعه ثانيًا، ويطالب العقل بأن يكون شريكًا لا تابعًا. إنها رواية عن خطر السكوت، عن فتنة الزيف حين يتماهى مع الطهر، وعن الحاجة الدائمة إلى من يكسر الصمت، حتى وإن دفع الثمن وحده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى