مقالات الرأي

الجميل الفاضل يكتب: معركة مَن، ضد مَن؟!

عين على الحقيقة

 

 

نعم، لقد سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء الآن حامض، أو مُر “هنالك”، أو مالح كماء هذا البحر.

فقد رفضت أعلى سلطة قضائية تابعة للأمم المتحدة، أمس الإثنين، قبول دعوى رفعها السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة بتهمة “التواطؤ في ارتكاب إبادة جماعية” في الحرب التي تمزق البلاد منذ أكثر من عامين.

وللحقيقة، فإن شكوى الحركة الإسلامية السودانية ضد دولة الإمارات، تحت ستار دولة السودان المختطفة لأكثر من ثلاثة عقود، ما هي إلا جزء من معركة بالوكالة يخوضها إسلاميو السودان نيابة عن “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” عدو الإمارات اللدود.

بل، وفي تقديري، لا يمكن النظر إلى معركة الحركة الإسلامية مع دولة الإمارات العربية بمعزل عن الصراع الإقليمي الدائر بين دول أخرى في المنطقة والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

هذا الصراع، الذي هو جزء من صراع أوسع نطاقًا، يستهدف استئصال شأفة حركات الإسلام السياسي، سُنية كانت أو شيعية.

وبالطبع، هو صراع متعدد الأطراف تنخرط فيه الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول غربية أخرى، إلى جانب بعض الدول العربية.

ولذا، أعتقد أن عملية ضبط الإمارات لخلية تهريب السلاح إلى السودان، هو جزء من هذه المعركة الواسعة، التي وُجهت فيها مؤخرًا صفعات قوية لتنظيم الإخوان الدولي، من خلال الكشف عن إدخاله أسلحة أيضًا إلى الأردن، التي حظرت رسميًا نشاط التنظيم وأذرعه، وكذلك ما يجري في تونس من مقدمات ستقود بالضرورة إلى نتائج مماثلة.

فتنظيم الإخوان في كافة هذه الدول، ومن بينها السودان، يبدو أنه يخوض معركة واحدة.

بل وربما يُفسّر هذا، كيف أن حرب السودان، التي وُلدت من مستصغر شرر ضئيل، قد بدأت تتعاظم نيرانها وتكبر رويدًا رويدًا، لتندمج في حرب مفتوحة على مستوى الإقليم، أكثر تعقيدًا وأوسع مدى.

هي في الحقيقة حرب متعددة الأطراف، تتشاركها الآن أكثر من دولة ضد حركات الإسلام السياسي في المنطقة.

هذه الحركات التي ظلت تتملكها، منذ نشأتها الأولى، شهوة عارمة لتغيير العالم برمته.

وعلى رأس هذه الحركات، بالطبع، الحركة الإسلامية السودانية، التي ورطت البلاد في هذا الطريق الوعر بجرائم إرهابية كبرى، ليس أقلها تفجير السفارتين في دار السلام ونيروبي، وضرب المدمرة الأمريكية “كول”، ومحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا.

على أية حال، هو سجل حافل بتدخلات هذه الحركة في شؤون الآخرين، من خلال ضلوعها في تغيير الأنظمة والحكومات بدول الجوار، من تشاد في الغرب، إلى إثيوبيا وإريتريا في الشرق.

المهم، هي ذات الحركة التي تتباكى الآن، وتشكو من التدخلات الخارجية في صراعها ضد القوى الثورية التي تسعى لتحرير البلاد من قبضة وهيمنة “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”.

لكن الغريب، أن هذه الحركة، برغم تاريخها في عدم احترام سيادة الدول، لا تستحي اليوم من أن تتهم الإمارات وتشاد وكينيا بانتهاك سيادتها، أو بالأحرى، سيادة تنظيم “الإخوان المسلمين الدولي” الذي ظل يحتل أو يستعمر البلاد.

وبالتالي، فإن هذه الحرب لم تعد، في الواقع، حربًا بين طرفين داخليين يتنازعان السلطة، بعد أن صارت بالفعل جزءًا من حرب واسعة عريضة، تسعى لاستئصال شأفة الإسلام السياسي من غزة إلى تونس، ومن عمّان إلى طهران، ومن الخرطوم إلى بيروت، ومن دمشق إلى صنعاء.

فقد بدا لافتًا بالأمس القريب وقوع هجومين استهدفا مطارات ذات حساسية جيوسياسية بالغة؛ الأول “مطار بن غوريون” والثاني “مطار بورتسودان”.

ورغم التباعد الجغرافي والاختلاف الظاهر في طبيعة الصراع، إلا أن ثمة خيوطًا ربما تربط الحدثين، تعكس تحولًا نوعيًا في أدوات الصراع الإقليمي، وامتداداته السياسية والعسكرية.

فاستهداف مثل هذه المطارات يؤكد تصاعد وتيرة استخدام الصواريخ بعيدة المدى والمسيرات في الحروب الرمزية والمعنوية، لتقويض الشعور بالأمن ولتوجيه رسائل سياسية.

ففي مثل هذه الحروب، لا تحمل “المسيرات” شحنة بارود فقط، بل رسائل سياسية أيضًا.

فالمسيرة لم تعد مجرد طائرة صغيرة بلا طيار يتلاعب بها الهواء كيفما اتفق.

فقد أضحت “المسيرة” بالفعل رمزًا لقلب موازين القوى في ميادين المعارك، من خلال قدراتها المذهلة على اختصار المسافات البعيدة، وعلى التخفي، وعلى المناورة، ثم على تقليل أو تحييد أي أثر لكل ما يدب على الأرض من دروع أو مشاة.

عموما، فقد أضحت “الطائرة المسيرة” اليوم من أهم أدوات الحرب المعاصرة، بما تتيحه من دقة الإصابة، وقلة التكلفة، وانخفاض المخاطر البشرية.

نعم، هي تقوم بذات واجب “البل” و”الفتك” و”المتك”، لكن دون آثار جانبية سياسية أو قانونية أو اجتماعية.

فالمسيرة مهما كان الأمر، هي في النهاية آلة صماء، لا تشوبها شائبة من شبهات أمراض نفوس بني البشر، فهي تضرب بلا غل، أو حقد، أو حسد.

لعلة أنها بلا نزواتٍ البتة ولا أطماع، تسعى لإشباعها بأسلوب “الشفشفة”، أو عن طريق الاغتصاب، أو بأي سبيل آخر يحقق لها غاية إذلال الخصوم، وإمتهان كرامة الأعداء.

وللحقيقة، فإن كافة أسلحة الجو، وعلى رأسها سلاح “المسيرات”، تبدو عندي أعلى إنسانية وأقل انتهاكًا من القوات البرية التي يصبح في متناول يدها أن تنكّل بأعدائها كما يحلو لها، متى وقعوا في أسرها، أو متى طالتهم براثنها.

لكن في ظني أن المسيّرات والصواريخ بعيدة المدى لم تعد مجرد وسائل هجومية فحسب، بل إنها قد باتت جزءًا من المعادلة الجيوسياسية في النزاعات الممتدة.

إذ كلما ازداد الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية منخفضة التكلفة، كلما أصبحت الجبهات المدنية هدفًا مباشرًا لصراعات قد تبدأ محلية، لكنها لا تلبث أن تتدحرج إلى أبعاد دولية هي في النهاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى