
فلسفة الزهد العاطفي
يأتي الزهد في الحب كفلسفة استثنائية ترفض أن تقيد القلب وترى في العاطفة أفق أوسع من التملك والاشتراط. هذا المفهوم لا يعني النفور من المحبة ولكنه فهم عميق لجذور الحب وإدراك أن المحبة الحقيقية هي حرية تمنحها لنفسك وللآخرين.
– العاطفة بين التملّك والتحرر: النهر والطير
حين تولد العاطفة يزرع التملك بذوره داخلنا، فنحن نحب لنملأ فراغاتنا ونشبّع حاجاتنا العاطفية. لكن الزاهد في الحب يشبه النهر الذي يتدفق من منبعه بلا انتظار، لا يجري ليمتلئ وإنما ليُروى. هو نهر يجري في صمت بلا هدير ولا ضجيج يروي الأرض التي يمر بها من دون أن يمسك بها فلا يعلق بمكان ولا يحبس نفسه في وعاء.
النهر هنا رمز للحب المطلق، حرٌ متدفق، لا يطلب مقابل، ولا يقيد نفسه في جغرافيا العواطف الضيقة.
كذلك الطائر الحر في السماء لا يعشّش في كل غصن، ولا يعلق قلبه في كل عش. يطير باحثا عن السماء الرحبة، يمرّ فوق الغصون دون أن يقيد نفسه بأحدها، يحلّق حراً في فضاء المحبة الرحبة، حيث لا يُحتجز، ولا يُسجن.
– الزهد في الحب: توقٌ للسموّ
الزهد صعود إلى مقام أعمق في الحب. كالشجرة العميقة الجذور التي تُظلّ الأرض دون أن تطلب من أحد الاعتراف، يُحب الزاهد دون أن ينتظر رد، ويمنح دون أن يطالب بالمقابل. قلبه سماء شاسعة لا تهتز مع مرور طائر أو غياب سرب، تظل ممتدة رحبة، تضفي السكينة على من تحتها، بلا أن تسجن أحدا.
في هذا المعنى الزهد يشبه الصحراء الواسعة التي لا تمسك بحبة رمل ولا تقتصر على واحة واحدة، تتسع لكل شيء، وتظل نقية وسامية رغم قسوة الظروف. هذا هو حبّ الزاهد لا يسعى إلى التملك، الزاهد يسعى إلى التجلّي.
-العشق بين الغواية والهداية: الفانوس والنار
العشق في كثير من التصوّف هو رحلة فناء الذات في ذات المحبوب، لا فناء في الإنسان الآخر، ولكنه في معنى أكبر. العشق رحلة شبيهَةً بـ”الفانوس” الذي يضيء درب العاشق نحو الله، بينما النار التي تحترق بها الأنا هي اختبار للفتنة.
المحب العادي يريد “الآخر” ليملأه، أما الزاهد فيريده “لنفسه” كي يكتمل هو نفسه. كالعصافير التي تحط على أغصان شجرة، تأتي وتذهب، لا تبقى إلى الأبد، لكنها تجعل الشجرة تنبض بالحياة. الفقد جزء من القصة، والرحيل جزء من الرحلة، ولا ضير في أن لا تكون القلوب محبوسة بأغلال التعلق.
– رمزية الزهد في العاطفة: المرآة والصخر
لو أردنا اختزال الزهد في رمز، فالمرآة الرحيبة الصافية(الأكيدة) تعبر عن القلب الزاهد. ترى كل من يمرّ، تحتفظ بالصور مؤقتا ثم تتركها تذهب. لا تلوثها الذكريات، ولا تأسرها المشاعر العابرة. نظافتها في عدم التعلق والقدرة على رؤية العالم من دون أن تُعكّر صفوها.
والصخر في وسط النهر رمز آخر: يقف بثبات وسط تيار الحياة والعلاقات المتغيرة، لا ينكسر تحت ضغط الماء، لكنه يسمح له بالتدفق حوله. لا يُعيق الحب، ولا يُحتجز فيه، يبقى قويا هادئاً في مسار متجدد.
– بلاغة الزهد في اللسان العاطفي: القمر المكتمل
في اللغة، كثيرا ما يُساء فهم الزهد بأنه برود أو جفاء، لكن الحقيقة أن القلب الزاهد يشبه القمر المكتمل، الذي لا يحتاج إلى انعكاس ضوءٍ من الآخرين ليضيء، لأنه ينبعث من داخله نورٌ ثابت ومستقل وفراغٌ ممتلئٌ بحضوره الخاص، لا يضطر إلى التزود من الخارج ليشعر بالاكتمال.
ختاماً بالمسرة من روائع الحسين بن منصور الحلاج:
الناس موتى وأهل الحب أحياء.