في شهر وفاة النيجيري «كلارك»
النهر كمسرحٍ للمأساة الأفريقية: هل قبض شيخي الطيب صالح نهاياته من عند «غنوة عنزة»؟
هنا أفترض لك ما يهابشُ اليقينَ عندي، وما يعدّه أهلُ النقدِ تَناصًّا؛ أعني قراءة النهاية المفتوحة في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» (1966) بوصفها إعادةَ صياغةٍ سرديةٍ لمشهدٍ تراجيديٍّ أفريقيٍّ سابقٍ لها في الزمان والنشر والعرض.
إنها نهاية زيفا (Zifa) بطل مسرحية جون بيبر كلارك “Song of a Goat” (غنوة عنزة)، التي نُشرت في لندن سنة 1961، وقُدِّمت لاحقًا على مسرح رويال كورت (Royal Court Theatre) في عام 1964 – على أرجح الأقوال – وقد أخرجها للناس الحذِق وولي سوينكا، صنوُ كلارك، والحائز لاحقًا على نوبل الآداب.
في تلك الفترة كان شيخي الطيب صالح مقيمًا في بريطانيا، متابعًا للحركة المسرحية الأفريقية الجديدة،
وقد أشار صراحةً في الرواية إلى دور مسرح رويال كورت وموقعه الثقافي ضمن المشهد الأدبي الذي قدّم تلك التجارب التراجيدية الحديثة.
إنّ مشهد الغرق في «غنوة عنزة»، حيث يلقى زيفا حتفه في الماء بعد أن تطارده لعنةُ الكهنة والعقم، يُحسَم بالقدر المأساوي المحتوم، بينما يترك الطيب صالح مصيرَ بطليه – الراوي ومصطفى سعيد – في النهر غامضًا، لم يحسمه ناقد.
وعندي أن هذا المصيرَ الضبابي ليس كذلك؛ إذ يمكن القول إن نهاية زيفا تحسم لنا مصيرَ بطلي «الموسم»، فـمن «غنوة عنزة» نستطيع أن نستنتج أن بطلي الطيب صالح قد غابا بغير رجعةٍ في أعماق النهر، وأن ما بدا نهايةً مفتوحةً هو في جوهره اكتمالٌ مأساويٌّ للموت الغارق؛ لا بوصفه فناءً جسديًا فحسب، بل خلاصًا رمزيًا من ذنب الوجود وانقسام الهوية.
كما أن المرأة – أبيير عند كلارك، وحسنة بت محمود عند الطيب صالح – تمثلان لعنة الخصوبة والعار، إذ تتحول غوايةُ الجسد الأنثوي إلى نهاياتٍ مأساويةٍ للرجال، أداةٍ قدريةٍ ضحاياها في «الموسم» بطلا الطيب وود الريس، وفي «غنوة عنزة» تونيي وزيفا.
ونُرجّح هذا التأويل بشاردةٍ، وهي أن الطيب صالح لم يستدعِ بطل «الموسم» ولا مصطفى سعيد في أيٍّ من أعماله اللاحقة، وكأنّ النص نفسه أغلق دائرة الوجود عليهما إلى الأبد.
وبذلك تغدو النهاية الغامضة انعكاسًا لشكل المأساة الأفريقية الحديثة: لا نهايةَ سعيدة، ولا خلاصَ بالعودة. وهكذا يمكن القول إن «موسم الهجرة إلى الشمال» يمكن أن تُفهم بوصفها حوارًا جماليًا عميقًا مع المسرح الأفريقي الحديث، استلهم فيه الطيب صالح البنية التراجيدية لكتّابٍ أفارقة معاصرين له، ليعيد تشكيلها في صورةٍ سرديةٍ متجاوزة تجمع بين الذنب الفردي والجرح الحضاري الجمعي.













