مقالات فكرية

ميرغني أبشر: سرّ الفاتحة الذي “لمسه” الطباطبائي، وفات على شحرور!!

سودان ستار

 

الفاتحة عندي هي المكنون الذي خرج منه الكلام الإلهي، فهي ليست جزءاً من القرآن بل أصله ومنبعه، هي الكتاب في جوهره، والكون في الكلمة. إنّها سرّ الله العظيم، الكلمة التي انطوى فيها القرآن المسطور كلّه، والحروفية التي تفجّر عنها الكون المنشور. وحين يقول الحق: «ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم»، فالمعنى أنّ النبي أُعطي عطيتين: السبع المثاني، وهي الفاتحة بما تختزنه من سرّ موجز، والقرآن العظيم، وهو تفصيل هذا السرّ في مسار التاريخ واللغة والوحي.

وقد ذهب بعضهم، كالمفكّر محمد شحرور(عليه رضوان الله)، إلى أنّ السبع المثاني ليست سورة بعينها، وإنما سبع قيم كبرى تتكرّر في القرآن: التوحيد، الحرية، العدل، المساواة، الكرامة، المسؤولية، والعمل الصالح. غير أنّ هذا القول وإن بدا حداثيّاً فإنه يضعف عند التحقيق، لأنّ القرآن لم يحصر منظومته القيمية في سبع وحدات؛ فثمّة قيم أخرى أصيلة لا تقلّ شأناً، مثل التقوى والإيمان، وطلب العلم، والتمحيص، والحساب والجزاء، وكلّها تتكرّر وتتجذّر في الخطاب القرآني. ثم إنّ بعض ما ذكره شحرور كالمسؤولية والعدل والمساواة يمكن أن يُدرج تحت القيمة الجامعة للعمل الصالح، الذي هو في المفهوم القرآني أفق واسع يحتضن هذه المفردات كلّها ويزيد عليها. فليست المثاني إذن حصراً اعتباطياً لعدد من القيم، وإنّما هي سرّ ثنائي متأصّل في النسيج النصّي للفاتحة نفسها.

هنا تتجلّى دقّة موقف العلامة الطباطبائي في تفسيره الماتع ( الميزان)حين فسّر المثاني من داخل النصّ، لا من خارجه؛ إذ رأى أنّ كل آية من الفاتحة قائمة على ثنائية متقابلة: الله في جلاله والعبد في فقره، الهداية التي يُسأل طريقها والضلال الذي يُستعاذ منه، النعمة التي تُوهب والغضب الذي يلتفّ على أهل الانحراف، الرحمة الجامعة والجزاء الحاسم. ليست المثاني إذن تكراراً لفظيّاً في الصلاة، بل ثنائية معنوية عميقة في صلب النص، وهذه الثنائيات هي التي تجعل الفاتحة مرآةً تلخّص الكتاب كلّه: أسماء الله وصفاته، قصص المشركين والمهتدين، مصائر الضالين والمغضوب عليهم، إشارات العبادات ومعارج السلوك، واليوم الآخر بيوم الدين بما فيه من نعيم وعقاب.

بهذا المعنى تكون الفاتحة هي المفتاح والمقدّمة، ومنها انبثق القرآن بتفصيلاته، فهي الشفرة التي ينحلّ منها تفصيل التشريع والقصص والوعد والوعيد. هي عطية الله المزدوجة: سرّ موجز في سبع آيات، وتفصيل مبسوط في القرآن العظيم. وكلّما قرأها العبد استعاد قراءة الكتاب بأكمله في ومضة، فهي المثاني التي تنفتح على الأضداد والمعاني المتقابلة، وهي سرّ الله الذي لا ينفد، تُتلى لتنبّه بأنّ الكثرة مظهر، والواحديّة مخبر وجوهر.

واخيراً : إنها عندي “أقرب إلى اسم الله الأعظم – من ناظر العين إلى بياضها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى