منوعات

السر دوليب.. وجه يضيء بالكلمة وابتسامة تروي القلب

أبية الريح

 

كان وجهه ينبض بالشعر قبل أن تصل الكلمة إلى الورق.

كنت محظوظة أن أراه عن قرب مرتين في حياتي؛ الأولى حين احتفت به رابطة عثمان حسين “أسطورة النغم” في مركز شباب الصحافة، والثانية في تكريم ضخم أقامته وزارة الثقافة بالمسرح القومي.

 

كل مرة كانت تجربة مختلفة، لكنها حملت الجوهر ذاته: محياه المضيء، ابتسامته الهادئة، رهافة حسّه، ودفء حضوره.

حين تجلس أمامه، تشعر أن الشعر يسكن وجهه، في العينين العميقتين، وفي شفاهه التي ترسم ابتسامة تفيض ودّاً وحناناً.

يشعر القارئ أن كل أغنية كتبها كانت محاولة لترجمة رهافة وجوده إلى لحن وكلمة.

 

وُلد تاج السر محمد المهدي دوليب في حي الركابية، شارع الوادي بأم درمان، في أسرة صوفية عميقة الجذور. فجده دوليب هو شقيق إسماعيل الولي، جد الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري، وأسلافه قدموا مع الإمام المهدي.

 

نشأ السر دوليب في بيت عرف بالتصوف، حيث امتزج الدين بالتقاليد، والروحانية بالعلم، مما منح شخصيته عمقاً ورهافة فطرية انعكست لاحقاً في كلماته وشاعريته.

 

والده، الذي كان من أوائل المعلمين في السودان، عمل ناظراً في الدويم ثم الرهد، قبل أن يستقر في حي “الدواليب”، حيث تشكلت مرحلة الطفولة والشباب في بيئة جمعت بين الانضباط العلمي والروحانية الأخلاقية.

 

درس السر دوليب المرحلة الابتدائية بمدرسة الهجرة، ثم الوسطى بالأميرية، وانتقل إلى الثانوية في وادي سيدنا، ومنها إلى خور طقت بالأبيض، حيث كان ضمن أول دفعة درست وتخرجت من المدرسة.

 

ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وأكمل البكالوريوس والدبلوم العالي، ونال الماجستير في الإرشاد النفسي، وكان أول من أسس هذا المجال في السودان، متأثراً بأفكار د. التجاني الماحي.

كان مؤمناً بأن الطب النفسي وحده لا يكفي، وأن المرشد النفسي ضروري لفهم السلوك الشخصي وحماية الأفراد من الانحراف النفسي.

 

مالي والهوى – عثمان حسين 

بعد عودته، أسس قسم الإرشاد النفسي بجامعة الخرطوم، وحرص على نشر العلم بين الطلاب، حتى نال لاحقاً الدكتوراه الفخرية من جامعة الأحفاد.

 

خلال حياته العملية، عمل أستاذاً للإرشاد النفسي في جامعة الخرطوم، ونشر هذا التخصص في الجامعات والمدارس، وكان من مؤسسي جامعة الأحفاد إلى جانب الأستاذ يوسف بدري، متطوعاً فيها قبل وبعد سن المعاش.

كان يرى فيها الجامعة الأم الخالدة، التي حملت رسالة تعليم المرأة في السودان، وكرّس لها جزءاً كبيراً من حياته بعد تقاعده، مع الحفاظ على حيويته ونشاطه الفكري.

هدية – محمد وردي 

اكتشف السر دوليب شاعريته أثناء المرحلة الثانوية، حين كان منهج اللغة العربية قوياً وصقل موهبته الشعرية.

كان زميله حسين بازرعة قد سبق في كتابة الشعر الغنائي، وتأثر به. وفي تلك الفترة، كان الفنانون يطلون عبر برنامج “ما يطلبه المستمعون” بالإذاعة السودانية.

 

هناك التقى بفنان السودان الكبير عثمان حسين، وأصبحت العلاقة بينهما فيما بعد شراكة فنية وثيقة، أثمرت أغاني خالدة.

 

كانت أولى أغانيه التي غناها عثمان حسين “أنا مالي والهوى”، وكان ميله واضحاً إلى سد ثغرة الأغنية الخفيفة في الغناء السوداني.

أطلق على أسلوبه في تلك الفترة اسم “الكسرات”، وهو أسلوب يضيف إيقاعاً خاصاً وجاذبية للألحان.

 

ثم جاءت أغاني مثل:

 

“مسامحك يا حبيبي” التي اعتُبرت مدرسة للتسامح الغنائي، “داوم على حبي”، “قلبي فاكرك”، “أرويني أرويني”، “ريدتنا ومحبتنا”. 

 

بالإضافة إلى أغاني غناها له عثمان الشفيع مثل “اللون الخمري”، والفنان محمد وردي أغنيته الجميلة “هدية أو الخطوبة”، وغنى له أحمد المصطفى، إبراهيم عوض، حسن عطية، ومحمد ميرغني الذي دخل الساحة بأغنيته “أنا والأشواق”، حيث كان لها دور بارز في منح صوته الإجازة والغناء المقبول.

كل هذه الأغاني حملت بصمة السر دوليب، بين الفصحى والعامية المهذبة، مبتعداً عن كتابة الرواية، ومكرساً اهتمامه بعلم النفس والتعبير عن مشاعر الإنسان بصدق.

 

أنا والأشواق – محمد مرغني

إلى جانب الفن، كان السر دوليب رياضياً نشطاً، لعب في فريق مدرسة خور طقت الثانوية، ثم فريق الهلال بين 1952 و1963، وفريق ود نوباوي، ولاعب فريق الجامعة الأمريكية في بيروت أثناء دراسته.

بعد عودته أسس فريق “الصن دي” مع زملاء جامعة الخرطوم، ممارساً الرياضة التي أعطته النشاط والحيوية، وعكست طاقته في أغانيه وإيقاعاتها.

 

كان السر دوليب ناشطاً ثقافياً واجتماعياً، شارك في تأسيس جمعية تنظيم الأسرة السودانية، وجمعية بابكر بدري للدراسات النسوية، وعمل على محاربة العادات الضارة، مؤمناً بأن الثقافة والعمل الإنساني هما طريق إلى مجتمع أفضل وأكثر وعياً.

 

في الأدب، كان يرى أن الشعراء الشباب بحاجة إلى القراءة المتعمقة للمتنبي، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، ونزار قباني قبل أن يشرعوا في الكتابة.

كما عمل في لجنة المصنفات الأدبية، مهتماً بإجازة الأعمال للإذاعة والتلفزيون، للحفاظ على جودة الشعر وضمان وصوله للقارئ والمستمع.

 

ظل يحلم بأن يكون الإرشاد النفسي جزءاً من كل مدرسة وجامعة، وأن يكون هناك مرشد نفسي مؤهل بدرجة الماجستير على الأقل في كل مؤسسة، لأن غياب هذا التوجيه يؤدي إلى مشاكل في سلوك الشباب.

كان يؤلمه أن المجتمع لا يتحدث كثيراً عن الإرشاد النفسي، رغم أهميته.

من أهم مؤلفاته: دراسات حول مشاكل الشباب وكيفية علاجها، والتوجيه والإرشاد النفسي بين النظرية والتطبيق.

 

السر دوليب.. الوجه الذي يسكن الكلمة والابتسامة التي تضيء القلوب.

شاعر وفيلسوف، عالم ومربي، رياضي وفنان، ترك بصمة خالدة في الأغنية السودانية وفي التربية النفسية.

محظوظة أنا أنني رأيته عن قرب، وعشت لحظات حضوره في تكريماته.

دفء ملامحه جعلني أستشعر الموسيقى قبل أن تُسمع، فأدركت أن السر دوليب حقيقة هو تجسيد حي للوجدان السوداني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى