
ميتاهمس
ما وراء المقدمة
عمر الصايم
يمثل فنُّ القصة القصة القصيرة جدًّا تحديًا مزدوجًا للكاتب والقارئ معًا. يقف الكاتب أمام قدرته الحقيقية في التخييل وسرده، فليس أمامه من سبيلٍ للمرواغات اللفظية والاختباء خلف الوصفية، أو التمادي في الإطالات وتفخيخ المشهدية بالإثارة.. يتحدى الكاتب نفسه في نحت أيقونة تُضْمِر وتُفْشِي، ترسم وتعيد البناء من خلال مادة سردية صغرى، إنه كمَن يجلو الحسن، ويرسمه في أناملٍ صغيرة.. وهي – أي القصة القصيرة جدًّا- تشكِّل تحديًّا للقارئ بوصفها بؤرة للمشاركة، حيثُ لا يكتفي بالقراءة من خارج النص وكأن التفاصيل الصغيرة وما بينها من تواشج لا يعنيه، ستدفعه نحو قراءة فاعلة، مستكشفة، متطلعة للمتعة، نائية عن الكسل. ربما لهذين التًّحديين، ولأسبابٍ أُخر ستكون القصة القصيرة جدًّا فاكهة الكتابة السردية في عصرنا هذا.
في مجموعته مِيتاهمس يتجول بنا حجازي سليمان حجازي في حقولٍ من المتعة القرائيّة، سنظفر ببوادر أثمرت في ريعان إنباتها، وأزهرت معانيها في تمام التفاتها نحونا. يعوّل حجازي على أساسيات هذا الفن من حكائية، تكثيف، ومفارقة.. ولا يقف عندها وِقْفَة الباحث الصارم ولكنه يداعبها مداعبة الفنان المتمرد، غير المُستسهِل للكتابة الإبداعيّة، يغترفُ منها بدلاء روحه فيمنحها سماته، رؤياه للكون، وأطاريحه في المعرفة والجمال.. اللغة هنا تتسامى في مدارج الشعرية، تتبرجُ بموسيقاها وسيمائيّتها؛ ليتخير الكاتب أمضاها دلالةً وأوقعها حسًّا، تتناغم المفردات لتبني صورًا، وتحكي حدثًا في غير ما حشوٍ وسوء ترابُط. سيجدُ القارئ بعض المفردات الخاصة والتي تبدو كلازمة في النصوص -سأترك مهمة رصدها – مفردات تتردد حاملة رموزًا ومعانٍ غايةً في الجمال، بارعة في الإشارة.
يوظًِف حجازي مهارته في اجتراح توليفات جديدة، وتجاورات جاذبة للغة، تتجلى هذه المهارة في العنوان ” مِيتاهمس” بتركيبته الدلاليّة ومنحوتته الخاصة مع مركزية كلمة همس، واشتغالها كناظم بين أقاصيص المجموعة، سنجدُ من بين نصوص المجموعة نماذجَ من هذه الابتكارات في العنونة مثل: ( عشقٌ لازب، غيهب حزين، ألوان نابسة..) إن الكلمات هنا سُرعان ما تُحيلنا إلى مقابلٍ آخر، فمثلًا لازب تحيلنا إلى ضربة، ونابسة إلى شفاه، وهنا تتقارب المفاهيم وتفترق أحيانًا بينما تستعرُ لذه القراءة مع اتقاد اللغة.
من خلال مشهديات صغرى تطرحُ مِيتاهمس أسئلة الإنسان الكبرى، وتطارح قلقه بقلقٍ مغاير وإجابات غير وثوقية.. إنها إجابات الفنان الذي يصنع عالمًا متخيلًا يهبه من لدنه روحًا، قلقًا، وأملًا فياضُا، ثم ينتظر في متعة طفل أن يتخلّق من هذا العالم بصيص عوالم تتداخل وتستنير من مشكاةٍ متعددة المشارب.. لا بد أن القارئ بحصافته واجدٌ في هذه المجموعة تعالقات مع مختلف الفنون، فهي بالطبع تتعالق مع سائر السرديات، مع الشعر، المسرح، والسينما، بيد أن ما لفت نظري وأغوى فضولي في التتبع هو ذلك التعالق البالغ بين هذه النصوص المكتوبة والفن التشكيلي، ليس من جهة أن كثير من هذه القصص تمثل لوحات مرسومة بالكلمات، لوحات لأشواق الإنسان ومآزقه فقط، بل تمضي أبعد من ذلك حتى تجد بعض لغة الفنون التشكيلة وأدواتها مبثوثة في ثنيات القص، وكأنها جزء أصيل من السردية لا يقوم الحكي إلا بتعالقها الشديد مع المشهد وما به من صورٍ وأحداث.. وما يمكن لي كقارئ يستعذبُ استحلاب الدلالات، وتغويه مطاردة كوامن النصوص هو أن أشير إلى هذا التواشج الشجي بين النصوص السردية والتشكيلية، آملا أن تكون في هذه الإشارة ما يحفز القارئ على تتبع واستكشاف هذا الأمر والتنعم بمتعة القراءة، وأن تشكِل هذه الإشارة مبحثًا لجمهور النقاد ابتغاءَ تقديم علائق الأجناس الفنية ومحتواها لجمهور القراء. وهذا دور سينهض به النقد، ويكفينا قولًا أن يكمن وراء هذه التوطئة، والتي تتوسل بأكناف النصوص لتكون عتبةً، ومِزْجاة للمباركة، واحتفاءً بحجازى سليمان وهو يتنقل بنا في هذا الضرب السردي مستصحبًا تآلفه مع الفن في تنوعاته المبذولة والمُستكشفَة.